ما يدور على الساحة السياسية الداخلية الأميركية بين الجمهوريين والديمقراطيين لا يعدو كونه مشاغبات أخوين شقيقين في منزل الأسرة الواحدة.
 

بنى كثيرون من زملائنا الكتّاب العرب والمحللين تحليلاتهم وتفسيراتهم لقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب المفاجئ من سوريا، وترك الساحة لروسيا وإيران وتركيا على أساس أنه قراره الشخصي المفاجئ وواحد من قراراته المزاجية الأخرى.

نعم ولا. فهو قراره، صحيح، ولكن قرارات كبرى تدخل في إطار الحرب والسلم والعلاقات والاتفاقات الاستراتيجية مع الخارج، بشكل خاص، لا يصنعها رئيس ولا كونغرس، رغم أنهما من ضمن صانعيها المهمين، بل توعز بها وقد تصوغها وترسم أبعادها وأهدافها الإمبراطوريات الاقتصادية الكبرى التي تمول ضرائب أرباحها المدفوعة للحكومة الفيدرالية ثلاثة أرباع ما تنفقه على سياساتها ونشاطاتها وأجهزتها من أموال.

وكل ما ترسله أميركا إلى خارج حدودها من معونات مالية أو عسكرية أو تكنولوجية أو ثقافية، وكل جهود مخابراتها، وجميع قواعدها العسكرية الثابتة، وبوارجها السابحة في البحار، وأقمارها الجائلة في الفضاء، لها هدف واحد هو حماية الصادرات وضمان الواردات، وتحييد الرافضين للهيمنة الاقتصادية الأميركية الطاغية على عالم اليوم.

بعبارة أوضح. إن السياسة الخارجية الأميركية تجارية نفعية بالدرجة الأولى ليس فيها كراهية ثابتة لخصم ولا محبة دائمة لحليف. وترامب، بحكم تاريخه الطويل في عالم التجارة والاقتصاد، أقرب من أي رئيس أميركي سابق إلى مراكز القوى الاقتصادية، وأقدرهم على تفهم مطالبها وحاجاتها وتنفيذ مقترحاتها، خصوصا في ما يتعلق بأسواق الدول القادرة على البذل والشراء.

جميع ما اكتسبه ترامب من خبرة، عبر نصف قرن من الزمان، كان في إدارة البارات ونوادي الخمر والقمار وتجارة العقار والفنادق الباذخة. وأثبت شطارة فائقة، على عادة جميع المقاولين في العالم، في تحقيق أقصى تخفيض ممكن للتكاليف، حتى لو كان ذلك عن طريق استغلال الثغرات ونقاط الضعف في القوانين، والإفلات من الضرائب وديون الحكومة والمُقرِضين.

وفي حساب الخسارة والربح ليست سوريا بذلك السوق الذي يسيل عليه لعاب مدراء مصانع السلاح والتكنولوجيا والزراعة والطاقة، وبالتالي فإن بقاء القوات الأميركية فيها يكلف الكثير مقابل الأقل من القليل. ولا ننسى أن لوازم الانتخابات الرئاسية القادمة تفرض عليه أن يُبطل ما يستطيع إبطالَه من سهام الديمقراطيين، وخاصة في ما يتعلق بالميزانية وروسيا بوتين.

من هنا، أصبح مفهوما أن يقرر ترامب سحبها منها وتوفير المال والجهد والعتاد، ما دامت روسيا وإسرائيل وتركيا التي تتولى إدارة الساحة السورية لا تشكل تهديدا من أي نوع لمصالح الولايات المتحدة وأمنها القومي بكل تأكيد. ثم إن التخلي عن سياسته المعلنة الداعية إلى إخراج إيران من سوريا، قد يكون أمرا نافعا، من نواح عديدة في المديين القريب والبعيد. وحتى الوجود الإيراني في العراق لم يكن ولن يكون مؤذيا لحكومة أميركا وشركاتها ومصانعها، إذا عرفنا حجم ما أنفقه العراق على السلاح والتكنولوجيا والخبراء من أموال، وما تحمله من ديون، منذ العام 2003 وحتى اليوم، بعلم القيادة الإيرانية وموافقتها الثابتة على ذلك دون ريب.

كما أن إيران، بنظامها الذي يعادي حكومات الدول العربية، عموما، والخليجية بوجه خاص، ويستنزف خزائنها، ويشغلها ويقلق أمنها واستقرارها، ويعطل الكثير من مشاريعها التنموية، نافعة وغير ضارة لأحد في أميركا، جمهوريا كان أو ديمقراطيا. وحتى القوانين التي يشغل الكونغرس، بجمهورييه وديمقراطييه، والبيت الأبيض نفسيهما بها بزعم معاقبة إيران والحد من نفوذها هي لزوم ما يلزم لإقناع العرب بأن أميركا لا تتخلى عن حلفائها، وتحمي أمنهم، وتعادي من يعاديهم، وهذا هو الدليل.

وما يدور على الساحة السياسية الداخلية الأميركية بين الجمهوريين والديمقراطيين لا يعدو كونه مشاغبات أخوين شقيقين في منزل الأسرة الواحدة. فلا ترامب في وارد الدخول في قتال شوارع مع الديمقراطيين، ولا الديمقراطيون معنيون بذلك إلا فيما يحقق الأهداف العليا الاسترتيجية أولا، ويُغلب أحدهما على غريمه في القيادة، وقبل أي شيء آخر.

وأخيرا، كتب دانيل ديبيتريس المعروف بدعمه الثابت لترامب مقالة في صحيفة (واشنطن إكزامينير) فقال، “إن هذا القرار سيمنع حدوث أزمة محتملة مع روسيا، فإن إطالة أمد الوجود العسكري الأميركي في سوريا قد تزيد احتمالات وقوع صدام مع روسيا، وهو ما لا مبرر له”.