ليست سهلة معرفة دوافع القرار الذي اتّخذه الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسحب قوّات بلاده الموجودة في سوريا (2000). لكن عدداً من المُتابعين للأوضاع الداخليّة في الولايات المتّحدة يعتقدون أن للتحقيق المُتشعّب الذي يجريه المُحقّق الخاص روبرت مولر، في حملته الانتخابيّة وفي أعماله كما في علاقاته مع روسيا بوتين أو علاقات أعضاء من فريقه معها، دوراً مُهمّاً في دفعه إلى اتّخاذ القرار المفاجئ المُشار إليه بالانسحاب. ومعلوم، وهذا ما قاله هو مباشرة بعد القرار، أنّه كان قبل أشهر كثيرة قاب قوسين أو أدنى من اتّخاذ القرار نفسه، ثم تراجع إرضاء لـ”الراشدين” في إدارته ومنهم وزير دفاعه جيمس ماتيس. لكن تراجعه لم يعنِ في حينه التخلّي عن الانسحاب، بل إرجاءه ستّة أشهر وهي المدّة التي اقترحها عليه الأخير. طبعاً كان ماتيس ولا يزال من أنصار البقاء في سوريا، إلى أن يحين وقت التسويات التي يكون لبلاده دور مُهمّ فيها، لكن معرفته بأطباع ترامب وبعناده وتمسّكه بمواقفه وتعهّداته وخصوصاً تلك التي اتّخذها في حملته الانتخابيّة جعلته يحدّد مدّة الإرجاء بستّة أشهر.

ماذا يقول هؤلاء المُتابعون عن قرار الانسحاب؟ يقولون إن “النهاية” ربّما تكون أقرب ممّا توقّعوا مع كثيرين من الأميركيّين. فالتحقيق مستمرّ، واعترافات “المتورّطين” أو بالأحرى المُشتبه في تورّطهم من فريق ترامب يُتابعون اعترافاتهم أمام مولر ومساعديه من المحقّقين. وبعضهم تمّ اتّهامه رسميّاً، وبعضهم الآخر عوقب بالسّجن بعد نظر المحكمة في الاتّهامات التي وُجّهت إليه، وأبرزهم كوهين محاميه الذي حكم بالسجن مدّة ثلاث سنوات. فضلاً عن أنّ ما تجمّع لدى مولر من معلومات ومُعطيات وربّما قرائن وأدلّة عن “التواطؤ” الذي يحرص ترامب على نفيه وتحديداً مع روسيا وعن عرقلة العدالة أو إعاقتها يكشف كم هي كبيرة ومُعقّدة مشكلاته، وهي ستكبر أكثر كما ستزداد تعقيداً.

ويكشف أيضاً مدى فساده (أي ترامب) سابقاً وحالياً ومدى فساد أولاده وابنته وصهره. لكنّهم لا يعرفون إذا كان سيُقاضى، أي ستُوجّه إليها اتّهامات رسميّة، أم سيُعزل من الرئاسة بقرار طرد يتّخذه في النهاية الكونغرس. علماً أنّهم يعتقدون أنّه قد لا ينجو من اتّهامات مع أعضاء عائلته وأعماله وحملته الانتخابيّة والـ Fund المالي الذي يخصّه. طبعاً ربّما لن يتمكّن من احتمال ذلك كلّه فيدفع نفسه إلى الاستقالة. وفي أي حال يؤكّد هؤلاء معرفتهم أن الصين وروسيا وإيران والحلفاء الأوروبيّين لأميركا يريدونه خارج البيت الأبيض بل خارج الرئاسة كلّها، ولم يعودوا قادرين على التعامل معه وتحمّل طبائعه ونزواته وحتّى ما يعتبرونه عدم صدقه. وتأمل هذه الدول في أن يخلفه رئيس ديموقراطي عام 2020، وإذا تحقّق أملها فإنّها ستكون جاهزة للتفاوض مع الرئيس الجديد. وهذا ما لن تفعله الآن رغم خلافاتها الكثيرة مع ترامب، إذ إنّها فقدت الثقة به ولا تريد خسارة ماء وجهها بالظهور أنّها رضخت له وأذعنت لمطالبه التعجيزيّة وإهاناته. أمّا في الداخل فقد بدأ شيوخ جمهوريّون التمرّد على ترامب، إذ صوّتوا لإنهاء تدخّل بلادهم في حرب اليمن إلى جانب المملكة العربيّة السعوديّة، وسيتمرّد آخرون إذا استمرّ في تهديده بإغلاق الإدارة لأنّه عجز عن إقناع الكونغرس بجمهوريّيه وديموقراطيّيه بالموافقة على بناء جدار فاصل مع المكسيك، بل على تمويل بنائه، علماً أنّه كان أكّد مرّات عدّة أمام مؤيّديه أن المكسيك هي التي ستدفع كلفته. لكن الإغلاق يُقلق الكثيرين من الأميركيّين، إذ إنّه قد يُحرّك قاعدته الشعبيّة الصلبة التي لا تزال تؤيّده والمراوحة نسبتها بين 40 و43 في المئة، فتُبادر إلى اتّهام خصومه بتدبير انقلاب عليه وربّما تنزل إلى الشارع للمواجهة. وهو قد لمّح إلى ذلك في تغريدات غير بعيدة.

طبعاً، يلفت المُتابعون أنفسهم، لم يمر قرار الانسحاب من سوريا على خير داخل أميركا. فوزير الدفاع ماتيس قدّم استقالته خطيّاً، وأظهر في كتابتها أسباب خلافه مع ترامب، ومن أبرزها سلبيّته في التعامل مع حلفاء بلاده منذ الحرب العالميّة الثانية واستفزازه إيّاهم، بل إهانته لهم باستمرار. وهم يُشيرون إلى أنّ تنفيذ القرار سيأخذ وقتاً أكبر من الذي يعتقده ترامب وقد لا يشمل الـ 2000 جندي الموجودين في سوريا كلّهم. لكن قراره الثاني سحب 7000 جندي من أفغانستان، في الوقت الذي يظهر “الطالبان” تفوّقاً على حكومتها وجيشها تجلّى بالاستيلاء على مناطق حكوميّة واسعة عدّة، أثار ويُثير المزيد من القلق. فهل ترامب في وارد ترك هذه الدولة للمتمرّدين المُتطرّفين من دون أي تفاوض معهم أو بعد تفاوض كهذا يثمر تسوية تحفظ المصالح الأميركيّة؟ طبعاً لا جواب عن هذا السؤال رغم أن المفاوضات بدأت بين الفريقين في دولة عربيّة خليجيّة. لكن لا يعرف أحد إذا كانت ستستمرّ. وما يعرفه أميركيّون كثيرون أن الانسحاب من أفغانستان سيكون خسارة معنويّة لأميركا، إذ استحال انتصارها فيها، وستضطرّ إلى تسليمها إلى “الطالبان”.