ما يشغل العالم اليوم هو حقوق الإنسان ومنها حقّه بممارسة حريته. هذا ليس أمرًا جديدًا والمسيحيّة تعلّم هذا الأمر بوضوح لكن ليس كما يُسوَّق اليوم إذ يقول الرسول بولس المصطفى في رسالته إلى أهل غلاطية: "فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا دُعِيتُمْ لِلْحُرِّيَّةِ أَيُّهَا الإِخْوَةُ. غَيْرَ أَنَّهُ لاَ تُصَيِّرُوا الْحُرِّيَّةَ فُرْصَةً لِلْجَسَدِ، بَلْ بِالْمَحَبَّةِ اخْدِمُوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا" (الاصحاح 5: الآية 13). هذه هي المسألة الأساسيّة التي تتحكّم بالإنسان اليوم أكثر من كلّ يوم وهي التسويق للحرية كتشريع وقوننة لخضوع الإنسان وانسياقه وراء شهوات الجسد، لا سيّما منها الجنس وطلب لذّة الأبدان، في سباق نحو اقتناء السعادة المبنيّة على روح الشَّبَق خارج منطق الحبّ الحقيقيّ. لا حرية حقيقيّة خارج الحب الأصيل المؤسَّس على سرّ (mystery) الإنسان، ولا حبّ حقيقيّ في ظلِّ تسلُّط شهوة الجسد ولذّتها على العلاقة بين الشاب والفتاة والرجل والمرأة حتّى في إطار الزواج.
 
* * *
 
الحرية الجنسية هي هروب من الحبّ الحقيقيّ لأنّ للحبّ أُسُسًا يُبنى عليها إذا غابت عنه صار مجرَّد إعجاب جسدانيّ بين الذكر والأنثى لا أهمية للشخص فيه. فالإنسان شخص، أي هو فرد (individual) في تواصل، وإذا حلَّ الاستهلاك مكان التواصل يصير الإنسان آلة لا تشبع وجوفًا لا يمتلئ وهوة مملوءة من النتانة. للحبّ ثلاث أسس: الأول- الوحدانيّة أي يوجد شريك واحد معشوق واحد؛ الثاني: الديمومة أي الاستمراريّة في الزمن بلا نهاية؛ والثالث- الالتزام أي كلّ من الطرفين يلتزم الآخَر ويتَّخذه كلّيًّا وكيانيًّا أمام الله والمجتمع. هذه الأسس الثلاث لا تنطبق على العلاقة في إطار الحرية الجنسية بين الشاب والفتاة أو الرجل والمرأة لأنّ مبدأ الحرية الجنسيّة ليس مبنيًّا على وحدانية الشريك والتعهُّد الأبديّ له والالتزام الكلي والعلنيّ في كلّ الظروف. من يتعاطى الحرية الجنسيّة، كما يظهر من واقع العالم اليوم، لا يثبت مع شريك لأنّ مبدأ العلاقة هو التَّفلُّت من كلّ قيد وإلزاميّة قانونيّة أو اجتماعيّة أو أخلاقيّة.
 
* * *
 
مسيحيًّا، الحبّ لا يمكن أن ينوجد خارج الإيمان لأنّه عطيّة الروح القدس إذ هو أيقونة الله المثلَّث الأقانيم والواحد في الجوهر الآب والابن والروح القدس. سرّ الثالوث هو سرّ الوحدانيّة في التمايز والرباط السرمدي بين الأقانيم والانسكاب المتبادل من الواحد في الثاني إلى الثالث ... إنّه سرّ حركة الحبّ الدائريّة بين أقانيم الثالوث التي هي أساس سرّ الحياة البشريّة حيث يأتي الفرح من عطاء الذات الكلي لله وفي الله للآخَر. الله هو مصدر سر الوحدة وغايته ومحقِّقه في الإنسان بين الرجل والمرأة في الزواج.
 
الجنس ليس هو الحياة بل يصير في الحبّ تعبيرًا رائعًا عن سرّ الحياة والفرح الأبديّ. فرح الوحدة بين الرجل والمرأة لا يتحقَّق إلَّا بالنعمة الإلهية التي تنسكب على الرجل والمرأة في سرّ الزواج حيث يصير الاثنان جسدًا واحدًا بسبب وحدتهما مع المسيح الرب. من هنا، فالحرية الجنسيّة تحجِّم الإنسان إلى مستوى بَدَنٍ يطلب لذّة يسمّيها حبّ وما هي في الحقيقة سوى عبودية للأنا الذي يطلب ما لِذَاتِهِ حيث الآخَر ليس مهمًّا إلّا بقدر ما يلبّي مطالب وحاجات هذا الأنا.
 
ما يُسمَّى بـ"الحرية الجنسية" ليس بالحقيقة سوى كذبة ووهم أتت كردَّة فعل على روح التزمُّت والاحتقار في التعاطي مع الجسد والنظرة التحريميّة والتي تنظر إلى الجنس على أنّه دنس وبالتالي على كلّ ما يحيط موضوع الجنس في حياة الإنسان من حظر وتحريم خاصة تجاه الفتاة والمرأة. هذا أدّى إلى طغيان النظرة إلى الجنس كعمل حيوانيّ لِجَنِي اللذة إذ تم فصله عن الحبّ، ولأن الحبّ حتى في الزواج لم يكن له القوة على تطهير الجنس من النظرة التدنيسيّة التي اُلصِقَت به باسم الدين. لا حرية خارج الحب ولا حبّ خارج الله وكلّ ما عدا ذلك هو عبوديّة ورِقّ وتشويه لحقيقة الإنسان وتدمير للبشريّة ...
 
راعي أبرشيّة زحلة وبعلبك وتوابعهما للروم الأرثوذكس (المتروبوليت أنطونيوس الصوري)