يصعب الجزم في أسباب التعثّر في التأليف وخلفياته، لأنّ هناك أكثر من سبب محتمل. وبالتالي، يمكن عرض هذه الأسباب في انتظار أن يُفرج عن الحكومة عاجلاً أم آجلاً.
 

لا يمكن التعامل مع المواقف السياسية باستخفاف كونها غالباً ما تعكس حقيقة الوضع السياسي، وما شهدته الأيام الأخيرة من مواقف سياسية على أعلى المستويات مبشِّرة بولادة الحكومة عشيّة عيد الميلاد كانت تعبِّر بصدق عن الاتجاه العام للأمور، حيث تكرر السيناريو نفسه الذي حالَ في المرة السابقة دون ولادة الحكومة، على رغم أنها كانت على بُعد ساعات من إصدار مراسيم تأليفها، حيث تمّ افتعال العقدة السنية التي فَرملت كل شيء وأعادت الأمور إلى النقطة الصفر.

وما حصل في جولة التفاؤل الأخيرة قد يكون هو نفسه تقريباً، إلى درجة انّ الحديث انتقل إلى البيان الوزاري وجلسة الثقة وما بعدهما، وإذا كانت التفاصيل المتعلقة بفشل الولادة الحكومية معروفة، من محاولة الوزير جبران باسيل ضَمّ ممثل «اللقاء التشاوري» جواد عدرا إلى تكتل «لبنان القوي»، إلى تمسّك «التشاوري» بأن يكون ممثله جزءاً لا يتجزأ من اللقاء، وما بينهما إعادة البحث في الحقائب على رغم من انّ هذا الموضوع يفترض أن يكون قد انتهى منذ تسليم الرئيس المكلف سعد الحريري الصيغة الحكومية لرئيس الجمهورية ميشال عون وكانت على وشك أن تبصر النور، فإنه لا بد من البحث عن الخلفيات التي أدّت إلى هذا التعثّر في التأليف.

الاحتمال الأول أن يكون السبب الفعلي للتعثّر المُستجد إيرانياً بامتياز، وكل دور «حزب الله» التغطية على التعطيل الإيراني من خلال إظهار انّ أسباب التعطيل محلية وانه وضع كل جهده للوصول إلى الحلّ المنشود الذي ينحصر بتمثيل «سنّة 8 آذار»، وانّ مسؤولية إحباط المبادرة الأخيرة تقع على غيره.
وهناك ثلاثة أسباب ترجِّح هذا الاحتمال:

ـ السبب الأول انّ طهران تريد إفهام واشنطن انها تمتلك أوراقاً عدة في المنطقة، وأنّ الحوار معها، لا العقوبات، يشكّل الطريق الى حلها، وبالتالي تسعى لاستدراج التفاوض معها ولو بالقطعة، والفراغ في لبنان مرشّح للاستمرار ما لم تطلب واشنطن من طهران تسهيل التأليف.

ـ السبب الثاني انّ طهران تريد الفوضى، أو بالأحرى اللااستقرار، في كل المنطقة من أجل الاتفاق مع واشنطن على حل شامل وليس بالقطعة، وطالما أنّ الولايات المتحدة أرادت تسعير المواجهة معها، قررت الرَدّ بالمِثل عن طريق تجميد الحلول في اليمن والعراق وسوريا ولبنان لكي يكون أي حوار مُحتمل على هندسة وضع المنطقة كلها، وليس فقط الوضع في إيران كما تريد واشنطن.

ـ السبب الثالث لأنّ «تفقيس» العقد الواحدة تلو الأخرى يدلّ الى انّ العقدة إقليمية لا محلية، وقد ظهر هذا الأمر بوضوح مع الطريقة التي اتّبعَت في تسمية جواد عدرا، إذ هل يعقل الاتفاق على شخصية غير منسّق معها على موقفها وتموضعها وحتمية أن تمثّل في الحكومة الجهة التي سَمّتها، أي «اللقاء التشاوري»، وكأنّ المقصود من وراء كل ذلك الوصول إلى رفض عدرا وضرب دينامية التأليف بترحيل الولادة إلى السنة الجديدة؟

وفي السياق نفسه لماذا لم يبادر رئيس الجمهورية والرئيس المكلف الى الاتفاق على إسمٍ آخر من ضمن اللائحة التي كان قدّمها «التشاوري»، أو الطلب من الأخير ان يقدّم إسماً جديداً وعلى وجه السرعة بُغية الحفاظ على دينامية التأليف وتوليد الحكومة قبل الميلاد؟ فالمقصود من كل هذا الحراك المحلي تغطية السبب الإقليمي للتعطيل.

أمّا الاحتمال الثاني لهذا التعثّر في التأليف فهو أن يكون خلفه الوزير جبران باسيل للأسباب الآتية:

ـ السبب الأول لأنّ إعادة البحث في الحقائب التي يفترض ان تكون محسومة غير طبيعي إلّا بهدف العرقلة.

ـ السبب الثاني لأنّ ضَم عدرا إلى تكتل «لبنان القوي» غير طبيعي إلّا بهدف العرقلة أيضاً، إذ في أيّ قاموس يمكن تفسير ضَم ممثل للقاء إلى لقاء آخر؟

ـ السبب الثالث لأنّ باسيل أراد ان يردّ بالمِثل على «حزب الله» الذي فَشّل وساطته منعاً لتخريج الحل عن يده بإحباط وساطة اللواء عباس إبراهيم برسالة مباشرة إلى الحزب.

ـ السبب الرابع لأنّ باسيل لديه اقتناع يردّده باستمرار أمام جمهور «التيار الوطني الحر»، ومفاده أنّ كل المطالب التي تمسّك بها نجح في تحقيقها، وانه لن تؤلّف حكومة إلّا ويملك فيها «الثلث المعطِّل»، وبالتالي لا حكومة قبل انتزاعه هذا الثلث الذي يعتبره استراتيجياً.

والاحتمال الثالث للتعثّر في التأليف أن يكون التعقيد المُستجد يندرج في كل بساطة في سياق سوء التقدير السياسي او محاولات تحسين الشروط في الأمتار الأخيرة للتأليف، والتي يعتقد البعض انّ في إمكانه تحصيل بعض المكاسب التي يتعذر عليه تحقيقها في ظروف وأوقات أخرى.

وأمّا سوء التقدير فهو مزدوج: سوء تقدير أنّ الوزير المحتمل، عدرا، سيرفض ان يكون ممثلاً لـ«اللقاء التشاوري» وسيتمسّك باستقلاليته، وسوء تقدير لدى باسيل بأنّ الصفعة التي وجّهها «حزب الله» لـ«التشاوري» من خلال اختيار شخصية لا تمثِّل اللقاء وعلى تقاطع بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف ورئيس مجلس النواب والحزب، لا تعني الإطاحة بـ«اللقاء» وإسقاطه بالضربة القاضية، لأنّ وظيفته لم ولن تنتهي، والمطلوب تدجينه فقط لضبطه تحت سقف «حزب الله» وشروطه، خصوصاً أنّ وظيفته الحالية كانت قد حدّدت بكسر أحادية «المستقبل» من دون كسر «المستقبل»، غير القابل للكسر أساساً، إنما تذكيره بوجود حالة سنية خارجه قابلة للاستثمار مستقبلاً، ومنع باسيل من انتزاع «الثلث المعطّل»، فإذا بالأخير يُسيء تقدير إشارة الحزب من أجل تحقيق سعيه إلى هذا الثلث.

وما تقدّم لا يعني انّ دينامية التأليف انتهت، لأنّ هذه الدينامية ستبقى مستمرة إلى ما قبل نهاية السنة الحالية التي تنتهي بإنهاء الدينامية الجديدة في حال لم تتوّج بتأليف الحكومة العتيدة، وفي السنة الجديدة يجب ان يكون هناك كلام آخر ومن نوع جديد...