في مجموعة قصصية صدرت عن دار الشروق العام الماضي بعنوان «أهل الحي»، وتدور حول فلك السياسة المبطّنة، والسيادة التي تتبع للقوي وتهمّش الضعيف، يخوض الكاتب يوسف زيدان حَبكته المُزدانة بحبال التلقّف والترفّق بالإيماءات الإنسانية للشعب المستكين، الذي اعتاد الصمت والتبعية، فيطلق في حكاياته القصيرة أبطاله الذين يخططون، ويلوذون، باسم الدين، بالعفّة والأمانة وهم يُضمرون الشر والهيمنة المستبدّة بالبشر والحجر معاً.
 

تَأثُّر زيدان بالكاتب الكبير نجيب محفوظ يَبدو جاحظ البصر كعين الشمس، فقد كتب الأخير عن مأساة السياسة في مصر بل ربما الكون بأسره ملخّصاً ومقلّصاً لهمومها في حيٍّ شعبي صغير، ليستحضر الإسقاط التاريخي للأحداث في كلّ الأزمنة ويَنبش معالمها غير المجمّلة، ويودعها تحت إبط النور ظاهرة للعيان، ويشير بالبنان إلى الديكتاتورية التي يمارسها الأقوياء في تصادمات مثيرة خانقة مع الضعفاء حتى يحكموا أغلالهم حول أعناقهم، تماماً كما يحدث بين الحاكم والمحكوم، واهمين إيّاهم بقدسية المكان الذي يوجدون فيه لتحقيق الارتقاء الذاتي المشبع بالأوهام والتدجيل، في عملية مرتّقة بالاستخفاف بذكاء الآخرين لتحقيق مصالحهم الشخصية وفَرضها، وهذا ما يحصل في زمننا وفي أزمنة غَبرت.

هذه السوسيولوجيا الأدبية التي تعنى بتضاريس المجتمع بالتحليل والدرس والنقد، والتي أسّسها جورج لوكاتش، رابطاً تطورات الإبداع الأدبي بالأحوال الإجتماعية للفرد، تفرض حصارها في فكر زيدان من خلال حكاياته التي تشبه بعضها البعض من حيث البواطن التلميحية.

يتناول زيدان في 14 قصة مبدأ الرأسمالية من خلال أبطال يتشابهون في كل حكاية، فيبطشون ويعيثون فساداً بخبث من خلال الاستكانة الظاهرة في الحَدثَ الأولي، ثم يسيطرون بقوة الذراع والساعد في الحَدث المُبَدّل، وتميد بهم أساطير الخرافة التي يستخدمها الأقوى فتزداد تبعيتهم له، ويتوهّج جوهر الصراع في التحدّيات التي ينجم عنها الفراغ، فلا المنطق ينفع أمام «البلطجة» ولا العقل ولا حتى مبدأ التنوير للعقول.

يبدأ الكاتب ببطل قصتة الأولى ويدعى «البرطوشي»، الذي يحضر الى الحَي مدّعياً صِفة القرابة والنسَب لأحد عجائزها بحجة الإعتناء به، ليستولي على شقته بعد وفاته ويبدأ مع رفاقه الذين اتخذهم حرّاساً شخصيين له ببَسط نفوذه وقوته على الحي، مُتدثراً بعباءة التقوى. وفي القصة الأخيرة يعود بنا زيدان إلى البرطوشي، رغم أنه انتقل إلى أبطال وقصص أخرى عارجاً على موضوع النفور بين الزوجين بسبب رائحة الجسد التي قد تثير وقد تقضي على العلاقة، منوّهاً في قصة أخرى بومضة جريئة عن سطوة الحظ على بعض الناس من خلال فتاة يعشقها طبيب الحي ويستميت في هواها وهي في تخدير ذهني بسبب لامبالتها، وغير عابئة بحظها الوفير. ثم يتناول في قصة أخرى، بفلسفة مُتقنة آسرة، موضوع الموت من خلال قصة أرمل عجوز يفقد زوجته فيقنع نفسه بالتحرّر من قيود الارتباط حتى لا ييأس أو يحزن، ويغوص في علاقات عابرة ليكتشف في النهاية أنّه عاد إلى نقطة البداية وهو أسفه الجارف على رحيل زوجته، فقد بَتر في أعماقه ما يعجز الفكر عن استيعابه أو تقبّله.

في قصص «أهل الحي» نقدٌ عاصف للسلطة الدينية وسيطرتها العمياء على القلوب، واستقطاب العقول الساذجة بفلسفة الترهيب والتدريب، أما الحبكة فمتشابهة في جميع قصص «أهل الحي»، فالبداية تمهّد للنهاية وهذا لا ينفي توفّر عنصر التشويق فيها من خلال لغة الكاتب الرشيقة التي تجيد الحبك الناعم على جسد الأحداث المرمرية، وتسدّ الطريق على الملل من التسرّب لأغوار القارئ، ولكنه كما محفوظ، لا يستطيع أن يكبت تَسارع النبض ولهاثه عندما يحصر رواياته في قصصٍ مقتضبة، فنجده أكثر غزارة وإيحاءً في رواياته الطويلة التي يُسهب فيها متحدّياً غمار العقدة وتصاعد الأحداث بثبات وانتقاء لتحوّلات القصة وتعرّجاتها، جامعاً بين السرد الكلاسيكي والحداثي، جاذباً تأويلات داخلية وخارجية لقطبَي سَرده، وهذا لا يَنفي أنّ للكاتب روح الاستهجان والثورة والتعبير في قصصه القصيرة، ولكنه لم يجنّدها بطريقة جاذبة بما يكفي لاستيفاء شروط الفن القصصي القصير.