بينما يتناكف اللغويون منذ عقود طويلة، وهم يدورون في حلقة مفرغة، إن كان يحق لنا استخدام كلمة «تلفزيون» أو «الرائي»، و«راديو» أو «مذياع»، ويخترعون من المفردات ما لا يصل إلى آذان العامة أو تستسيغه بديهتهم، يذهب الصحافيون إلى مكاتبهم وليس بين أيديهم غير اللغة وسيلة لكتابة مقالاتهم، وتوصيف مشاهداتهم، وتوصيل معلوماتهم للقراء الذين ينتظرونهم ولا يغفرون لهم تأخراً. وهي رحلة يومية شحذ خلالها مئات الكتّاب العرب، الذين بينهم من طار صيته، وغيرهم بقوا جنوداً مجهولين، قرائحهم، ونحتوا جسد اللغة حتى أحالوها رشيقة، خفيفة، تجاري المُعاش، غير قادرة عن التخلف عن الركب.


وفي يوم اللغة العربية، يطال الكلام كل تفصيل إلا هذا الدور المحوري الذي عصم اللغة من التحنيط والمفردات من البرود والأساليب من التجمد. وبدل الاعتراف بالفضل، لا يملك اللغويون سوى رمي الصحافة بالاتهامات السهلة، بأنها تهوي بالنحو، وبإمكانك أن تقرأ عشرات المقالات عن الصحافيين الذين أفسدوا الذوق العام وارتكبوا ما لا يحمد من الأخطاء، مع أن من لا يعملون هم وحدهم من لا يخطئون.


وإذا كان من فضيلة للصحافة، فهي أنها تخطت هذا الجدال بين من يدعون إلى فصحى أفصح من الفصيحة، وعامية لا تعترف بغير ذاتها، وبنوا نهج اللغة الوسطى بصمت الرهبان المتبتلين. ولولا الجرائد لما وجد الأجانب الذين يتعلمون العربية نصا يقرأونه يوصلهم بالحياة التي نعيش، ولبدت المسافة بين فصحانا وعاميتنا كضفتي نهر لا تلتقيان.


فسواء كانت الفصحى هي لغة قريش في الأساس أم إحدى لهجات نجد، أم ما غلب استخدامه عند العرب، كان ثمة دائماً فرق بين المكتوب والمحكي، يزيد أو ينقص، دون أن يفسد من جمالية الاستخدامات شيء. وكان عبقرياً محمود تيمور حين وجد الحل هو ومن جاراه في الرأي، ولم يستمع إليهم أحد. فقد تعجب الرجل كيف نقتبس من اللغات الأجنبية كلمات نعرّبها ونترجم منها تعابير لها دلالات خاصة، برحابة صدر، بينما نقفل الباب على العامية ونمنعها من الولوج إلى ما نكتب، ونضيق بها ذرعاً. وحكى دائماً عن العامية وكأنها بعبع يهجم على الفصحى ليفترسها. وفي العموم لا يحب اللغويون السماع بموضوعها. وكأننا أمام خيارين، إما نتحجر في زمن سيبويه أو نطلّقه طلاقاً بائناً.

والحل بسيط على ما يقول محمود تيمور، فالفصحى إذا ما شرعت نوافذها على استخداماتنا اللغوية اليومية ولو قليلاً بعد هدم الجدار الموهوم بينهما، تغذت ونبضت حياة، واقتربت من مزاج الناس، وصارت أكثر شبهاً بهم.


ألا نسأل أنفسنا لماذا نستخدم عبارة «الدخول الأدبي» للحديث عن إصدارات الكتب في سبتمبر (أيلول) ترجمة عن الفرنسية، أو لفظة «أجندة» و«بسكليت» و«بوفيه» و«بلاج» و«تاكسي»، و«برلمان»، وينظر إلى نصنا على أنه ركيك لو استخدمنا فيه عبارة من مثل «هذا رجل حقاني» أي يقف مع الحق، مع أن الكلمة ذات جذر عربي قحّ. لماذا لا يسمح لي أن أكتب «ما هذه البلوه التي نعيش» ومسموح أن نقول: «بلاه السفر» أي أعياه مثلاً.


ولماذا لا نميل لاستخدام «راح» بدل «ذهب»، مع أن الأولى أقرب إلى الذائقة. ألا يخشى الكتاب أنفسهم الاقتراب من العامية، حتى حين تكون صحيحة عربيتها؛ خوفاً من اتهامهم بالركاكة.


ارتفع الجدار بين الفصحى والعامية حتى صار سداً، ووجدنا من يتحدث عن لغتين منفصلتين لا جسر بينهما. وقد يُقبل هذا الكلام من لغوي فرنسي مثل جان لوي كالفي صاحب كتاب «أي مستقبل للغات» الذي وصل به الحال حد الدعوة إلى تعليم الصغار العامية بدل الفصحى؛ لأن الثانية ليست لغتهم الأم. أما دليله على المسافة الهائلة بين الاثنتين، فهو أنه يعرف الفصحى ولا يفهم العاميات العربية. والإجابة عن كالفي بسيطة؛ فهو ليس لديه سليقة ولا بديهة العربي بالعودة إلى الجذر حين يسمع كلمة لم يألفها. فحين يقول أهل المغرب «بالسلامة» لا يصعب على اللبناني أن يفهم لأنه يقارنها بـ«مع السلامة».


العجيبة تقع حين تقرأ اللغوية سهير السكري وهي تدعو لأن ينقطع الأطفال في سنوات التعليم الأولى إلى حفظ القرآن وتغييبه، دون معرفة معناه، قاطعة بأن العامية التي يعرفها الطفل لن تسعفه في إجادة فصحاه في شيء. وبمقدور الأساتذة أن يلحظوا بسهولة شديدة أن طلابهم الذين يتحدثون عامية مرتبكة، وجملهم المحكية غير مكتملة، هم أنفسهم من يجدون صعوبة في تركيب جمل عربية صحيحة، عندما يكتبون ليعبروا عن أنفسهم.


وللتخلص من الإرباك اللغوي نحتاج عقد مصالحة تاريخية بين الفصحى والعامية، والتوقف عن السجالات. فليس التعصب لإحداهما سوى تطرف شديد سينتهي إلى ما انتهى إليه كل تشدد سقيم في زمننا الرديء.


وكان طه حسين أبلغ من كتب بالفصحى في القرن العشرين، وأبرز من دافع عنها اعترف في النهاية، بأن روعة قصص نجيب محفوظ تأتي من أنها لم تكتب بالعامية المبتذلة، ولا بالفصحى القديمة التي يشق فهمها، وإنما كتبت في لغة وسطى تصل لكل قارئ. ونحن لا ندعو إلى عامية تفرق كيان العرب وتبلبل ألسنتهم؛ فهذه دعوة شريرة، لكن في العامية توجد «مصنوعات وطنية» خرجت من قرائح عربية، واشتقت بعبقرية شعبية لا تنقصها الفصاحة، ولا يعوزها الوزن، وهي بليغة وجميلة، فلنعترف لها بحقها في الوجود كما نتقبل المعرّب والمترجم. فالألفاظ من أولى الأرحام أدعى بالقبول من تلك الآتية من فرع أجنبي لا نعرف له أصلاً ولا فصلاً. وما فعله الصحافيون، وما يجاهدون من أجله كل يوم، هو هذه السباحة عكس التيار كي لا تبقى المياه اللغوية راكدة آسنة، فطوبى للمجتهدين الكادحين...