لا يَستغني أيُّ نظامٍ سياسيٍّ عن أزَمات، ويأخذُ بعضُها طابَعًا دستوريًّا. في الدولِ المتحَضِّرةِ كلُّ أزمةٍ تَجِدُ حلًّا من خلالِ الدستورِ والقوانين وآليّاتِ النظامِ، ديمقراطيًّا كان أو ديكتاتوريًّا. في لبنان تبقى الأزماتُ، دستوريّةً كانت أو سياسيّةً، عصيّةً على الحلّ، لأنّها تَنبُت خارجَ النظامِ (في الطوائف والسفارات والدول) ثم تَتسلّلُ إليه وتُقدِّم نفسَها جُزءًا منه. لكنها في الوقت ذاته، تَلفِظُ المعالجاتِ التي توفِّرها لها آليّاتُ النظام. كلُّ أزْمةٍ هي بمثابةِ اعتداء خارجيّ.

نَستَنتج، للوهلةِ الأولى، أنَّ النظامَ اللبنانيَّ صالحٌ وبريءٌ من الأزَماتِ طالما أنَّها دخيلةٌ عليه. لكنْ، سُرعانَ ما نَكتشِفُ أنَّ النظامَ معنيٌّ بها مباشَرةً لأنّه بات: أصغرَ من التعدديّةِ اللبنانيّة، وأضيَقَ من الولاءاتِ المتناقِضةِ، وأعجزَ من أنْ يَـمنعَ تَسرُّبَ الأزَماتِ الطارئةِ إليه، وأضعَفَ من أنْ يَستوعِبَ التغيّراتِ الناتجةَ عن الحروبِ المتراكِمة.

وتتأكّدُ «مسؤوليةُ» النظامِ حين يَتبيّن أنَّ مُفتعلي الأزَماتِ يَستهدفونَه بما يـُمثِّل من دولةٍ ودستورٍ وأعرافٍ ميثاقيّة، من أجلِ دَبْلجةِ دولةٍ جديدةٍ لا يَجرؤون، بعدُ، على تحديدِ مواصفاتِها المستَترةِ وهوّيتِها الـمُضمَرة، لا بل يذهبون حتى اعتبارِ الدستورِ مصدرَ الأزَماتِ، فيما هو مبدئيًّا مصدرَ الحلول. وما يُساعدهم في هذه اللُعبةِ الخطرةِ أنَّ دستورَ «الطائف» ملغومٌ ـ قصدًا ـ ببنودٍ وفَقراتٍ متناقِضةٍ وغامِضةٍ تَحتمِلُ التأويلَ والاجتهادَ.

وأصلًا، كلُّ التحصيناتِ الدستوريّةِ التي عزَّزت الكِيانَ اللبنانيَّ منذ تأسيسٍه بَقيت موضِعيّةً وظرفيّة: وثيقةُ «الميثاقِ الوطنيّ» صيغت أدبيًّا لتمريرِ إنهاءِ الانتدابِ الفرنسيِّ سياسيًّا من دون تثبيتِ الولاءِ للبنان والهوّيةِ اللبنانيّة. وثيقةُ «اتفاقِ الطائف» سُطِّرت على عُجالةٍ لتَزيين وقفِ إطلاقِ النارِ آنذاك بين الجيشين اللبنانيِّ والسوريّ من دونِ إنهاءِ الميليشياتِ والاحتلال. حتى أنَّ النظامَ الديمقراطيَّ البرلمانيَّ نُسِجَ على قياسِ جيلٍ لبنانيٍّ، متعدِّدِ الطوائف، تَشرَّبَ الرقيَّ ومبادئَ الديمقراطيّةِ الغربيّةِ واستمرَّ (النظامُ) شاهِدًا على التأثيرِ الإيجابيِّ للانتدابِ الفرنسيِّ مقارنةً بالآثارِ الهمجيّةِ التي خَلّفتْها ـ ولا تزال ـ الوصاياتُ اللاحِقة. 

هكذا، ما إن جَلا الفرنسيُّ حتى خَشَّ العربيُّ، وما إن توقّفَ إطلاقُ النارُ إثرَ «الطائف» حتّى اجتاحَ الجيش السوريُّ لبنان، وما إن انقرَضَت الأجيالُ الديمقراطيّةُ حتى أُدرِجَت التوافقيّةُ الـمُعطِّلة. أي أنَّ كلَّ ما وُضِع لبناءِ الدولةِ اللبنانيّةِ تَحوَّل ضِدَّها. نحن في استقلالٍ من دونِ روحٍ استقلاليّةٍ، وفي ديمقراطيّةٍ من دون ممارسةٍ ديمقراطيّة، وفي دولةٍ من دون الاعترافِ بمرجِعيّتِها.

هذه الحالةُ تُدعى «العَدَميّة» (le Nihilisme) حيث يَدخلُ الإنسانُ/المواطِن مرحلةَ الشعورِ بالفراغِ الفِكريّ المطلَق نتيجةَ ضَياعِ المعاييرِ والتنكُّرِ للمرجِعيّات. تَنعدِمُ الحواسُّ والأحاسيس، تتوازى الحلولُ بالمشاكل ويَترادَف الخيرُ والشر. يزول الفرْقُ بين الانطلاقِ والوصول، والزمانِ والمكانِ، والصمودِ والهِجرة، والحياةِ والانتحار. يَصعُبُ التمييزُ بين النجاحِ والفشل، والفضيلةِ والخطيئة. سِيّان بين الشكلِ والمضمون، والتفاهةِ والرَزانة، والنزاهةِ والفساد، والنظامِ والفوضى.

وحين تلتقي هذه المشاعرُ الفرديّةُ مع حالةٍ جَماعيّةٍ، أي مع وضعٍ اجتماعيٍّ أو اقتصاديٍّ أو سياسيٍّ متَحلِّلٍ، تَتحوّل «العدَميّةُ» من فلسفةٍ نظريّةٍ إلى نهجٍ تغييريٍّ رافضٍ يُطيحُ المؤسّساتِ القائمةَ، ولو من دونِ تقديمِ بديلٍ إيجابيٍّ كما حَصل في روسيا وألمانيا بين أواخرِ القرنِ التاسع عشر وبداياتِ القرنِ العشرين. في مثلِ هذه الحالات المأزومةِ يَتعذّرُ التمييزُ بين قِوى الشرِّ وقِوى الخير، وبين الأطرافِ الّذين يؤزِّمون والأطرافِ الّذين يُسهِّلون. الجميعُ يُصبحون سواسيةً، أمامَ الشعب، في المسؤوليِّةِ العَدميّة.

يُجسّدُ لبنانُ اليومَ هذه الحالةَ، إذِ اخَتلطَت المسؤوليّاتُ والصلاحيّاتُ، وتَماثل المدّعي والمدَّعى عليه، وساوى الناسُ بين 8 و 14 أذار، وبين المحورِ الأميركيِّ/السعوديِّ والمحورِ الإيرانيِّ/السوريّ، ونَسَوا تأليفَ الحكومةِ ما لم تُذكِّرهم به وسائلُ الإعلام. في هذا السياقِ، العدميّةُ التي يعيشها المجتمعُ اللبنانيُّ بأسرِه تَخطّت بأشواطٍ الإحباطَ المسيحيَّ الذي بَرز في بدايةِ تسعيناتِ القرنِ الماضي. نشأ الإحباطُ المسيحيُّ نتيجةَ هزيمةٍ عسكريّةٍ تَبِعها تهميشٌ سياسيٌّ، أما العدميّةُ اللبنانيّةُ العامّةُ الآنَ، فنَمَت تدريجًا نتيجةَ عواملَ عدّةٍ أبرزُها: هزيمةُ الصيغةِ اللبنانيّة أمام التطرّفِ الدينيِّ وتَعدّدِ الولاءات، انكسارُ الدولةِ أمام الدويلات، سقوطُ هيبةِ الكيانِ أمامَ استباحةِ الحدود، فسادُ الأخلاقِ لدى غالِبيّةِ الطبقةِ السياسيّةِ، تراجعُ القيمِ في المجتمع، استفحالُ الأزَماتِ المعيشيّةِ من دون معالجة، تنامي القرفِ الوجوديِّ والقلقِ على المصير، وشعورُ الشعبِ بصعوبةِ إيجادِ لبنانَ آخَرَ أفضل. 

وتتجلّى هذه العدميةُ أزَماتٍ متنوِّعةً في اليوميّات. صار اللبنانيّون شعبًا يعيش على البدائل... ومن يَقتنعُ بالبدائلِ تلتهِمُه العَدميّةُ، فيَغوص المجتمعُ في الفوضى العارمةِ، وتلتقي العدميّةُ الملحِدةُ بالعدميّةِ الدينيّة (التكفيريّة)، وتجتمعُ العدميّةُ الشعبيّةُ بالعدميّةِ الحاكمة، وتتوازنُ عدميّةُ الفشلِ مع عدميّةِ الخيانة. حينئذ، تنتشر العدميّةُ الأخلاقيّةُ في الشأن العام فتُحَلّلُ الفسادَ وسوءَ الإدارةِ واللامبالاةَ بالشعبِ والمماطلةَ في تأليفِ الحكوماتِ وعدمَ احترامِ مواعيدِ الاستحقاقاتِ الدستوريّةِ والمزجَ بين الشرعيِّ والأمرِ الواقع وبين الحوارِ والإذعان. ويَعقُب ذلك، حَسْبَ التجارب التاريخيّة، رفضُ أيِّ سلطةٍ مدنيّةٍ أو عسكريّةٍ أو دينيّةٍ أو ملَكيّة. 
يكفي أن نقرأَ روايةَ «آباء وأبناء» للكاتبِ الروسي «إيڤان تورغينييف» (1862) التي منها استوحى التيارُ العدميُّ الروسيُّ، والحركةُ البولشيفيّةُ لاحقًا، سلوكَهما الفوضويَّ، فقَتل العدميّون القيصرَ «الكسندر الثاني» سنةَ 1881، ثم قَتل البولشيفيّون القيصرَ الأخير «نيقولا الثاني» مع عائلتِه سنةَ 1918.
لكن، حين تَتخطّى الحالةُ العدميةُ حدودَ الطاقةِ البشريّةِ (الجسدُ والضمير)، يَتخلّى العَدميّون عن عدميّتِهم السلبيّةِ، ويَتحوّلون عدميّين إيجابيّين يُطلقون مع الفيلسوف الألماني نيتشه (Nietzsche) «إرادةَ القوة» التي تعني تغييرَ المجتمعِ والدولةِ من خلال تغييرِ الطبقة السياسيّة بالقوّة. 

هنا تَقف المقارنةُ بين العدميّةِ اللبنانيّةِ الناتجةِ عن إحباطٍ وجوديٍّ لا عن فلسفةٍ ملحِدة، وبين العَدميّتين الروسيّةِ والألمانيّة المنبثِقتين من مدرسةٍ فلسفيّةٍ مرتكزةٍ على العنف. غير أنَّ وقفَ المقارنةِ يَتطلّبُ أن يَستعمِلَ الشعبُ اللبنانيُّ الوسائلَ الديمقراطيّةَ المتاحَةَ ليغيّرَ واقعَه عوضَ الاستسلامِ للعدميّة والبُكائيّة. إن في شعبِنا وتاريخِنا ومقاومتِنا من الطاقاتِ ما يُمكّنه من قلبِ المعادلات. لماذا ندعُ العدميّةَ تنتشرُ فينا خِلافَ شخصيّتِنا المقاوِمَة، فيما لم نَأْلَفْها حتى في أزمنةِ الاحتلال؟