مع أن أوروبا الغربية تتحسّس خطر انفجار الصراع داخل سوريا منذ العام 2015 لاسيما من "الساحة" الألمانية عبر البوابات التركية (المصدِّرة للنازحين) واليونانية حتى الهنغارية والنمساوية وطبعا الإيطالية... مع ذلك بقيت سياستها في الشأن السوري متشددة ومساهمة، بشكلٍ ما، في تطويل مدة الحرب الدائرة هناك. هذه الحرب التي باتت مركز الخطر الأول على العالم العربي.

العكس إسرائيل

أظهرت الدولة العبرية وهي في ذروة تشدّدها ضدالفلسطينيين بل تنكيلها بهم، وهم موضوع استعمارها المنزلي، أظهرت تفهّماً عبر التفاهم مع روسيا، تمثّل في ما يمكن أن نسمّيه الانتقال الإسرائيلي من المساهمة في تفكيك الدولة ولاحقا المجتمع السوريين إلى الاكتفاء بممارسة تدخل عسكري جوي لضبط الدور الإيراني في سوريا وعبرها في لبنان.

هذا يعني باختصار أن إسرائيل عادت تقبل بحدود الدولة السورية (دون الجولان المحتل طبعاً) كما ارتسمت مع خط فك الاشتباك عام 1974 في القنيطرة، عبر قبولها بعودة قوات الفصل الدولية (UNDOF) إلى مواقعها.

كانت ذلك تطورا إيجابيا فائق الأهمية في سياق الاستعادة المتقطعة لانتشار الدولة السورية على مساحة الجزء غير الصحراوي أي على مربع دمشق حلب اللاذقية طرطوس (ما عدا جيب إدلب الكبير)، إنه المربّع الذي هو تاريخيا مركز سوريا السكاني، وخصوصا في جنوب سوريا أي محيط العاصمة دمشق.

لم يكن سماح إسرائيل بعودة قوات المراقبة الدولية إلى خط الفصل في الجولان وحده التطور الملفت، بل واكب ذلك، ولربما جاء نتيجةَ تفاهمٍ إسرائيلي إيراني غير معلَن كان حصيلة ناجحة لدور روسي في العلاقة مع إسرائيل. (هل نستطيع أن نعتبر زيارة بنيامين نتنياهو لعُمان بشكل ما موازيا لـ"جو" هذا التفاهم الإيراني الإسرائيلي الجزئي وإن كان في دائرة مختلفة؟)

لماذا أوروبا، وتحديدا الاتحاد الأوروبي الذي فجرت أو فاقمت فيه الحرب السورية أساسا والحروب المحيطة، أزمة هوية في دول أساسية كفرنسا وإيطاليا وطبعا ألمانيا، لم يُظهر انعطافا بل تغييرا في سياسته الحربية ( بالنتيجة) في سوريا بينما إسرائيل صاحبة المصلحة الدائمة والواضحة في سوريا مفككة بل عالم عربي ضعيف، أدركت أن هذا التفكك يمكن أن يتحول إلى عبء خطر عليها؟

لماذا توقفت إسرائيل الليكودية في لحظة محددة عن ممارسة هذه السياسة عبر إرسالها الإشارة الفائقة الأهمية بإعادة قوات الفصل الدولية إلى مواقعها "التقليدية" بعد حرب 1973. وتلا ذلك لاحقا التخفّف (كما تتخفّف من حِمْل) بعض المنظمات "الإنسانية" التي كانت إسرائيل تدعمها؟ لذلك يبدو من غير المنطقي، في ظل حملات التهويل الجارية على وفي لبنان لاسيما في موضوع الأنفاق، أن تخوض إسرائيل حربا مع الذراع الإيرانية الاستراتيجية "حزب اللهً" لأن التفاهم عندما يكون قائما يشمل الساحتين سوريا ولبنان، ولسنا في مرحلة انتقال تاريخي في المنطقة كما لو كان سيحصل لو بقي الاتفاق النووي حيّاً ولم "يشطبه" الرئيس دونالد ترامب، مرحلة انتقال كان يمكن أن تعني لو صمد "النووي" خروج إيران من الصراع العربي الإسرائيلي حربا أو سلما عبر لبنان أساساً.

كان وليم بيرنز في بيروت الأسبوع الماضي لحضور المؤتمر السنوي لمؤسسة "كارنجي" البحثية الأميركية التي يترأسها الآن، وسألته في جلسة ضمت بعض الزملاء المدعوين عما إذا كانت "نظرية" أن الولايات المتحدة وإيران لم تتفقا على أي بند يتعلق بالشرق الأوسط وبالدور الإيراني وأنهما حصرا الاتفاق بجانبه النووي المعلَن، هي صحيحة؟ وهي النظرية التي يحرص على ترويجها النظام الإيراني وإدارة الرئيس السابق أوباما معاً، و السفير بيرنز كان من تلك الإدارة، و هو الذي قاد جزءا كبيرا من المفاوضات السرية السابقة للاتفاق يومها ولاسيما في عُمان.

نفى السفير بيرنز الذي كان مساعدا لوزير الخارجية، أي تفاوض رسمي حول المنطقة خلال مفاوضات "النووي" باستثناء بعض الأحاديث "الهامشية" خارج طاولة المفاوضات التي كانت تحصل من وقت لآخر. وهو حتى في العراق لا يقبل بفكرة "التسامح الأميركي تجاه إيران بسبب المصالح النفطية الضخمة" ويقول أن التواجد هناك يتعلق باعتبارات مساعدة الدولة ومكافحة الإرهاب. ومع أن الجلسة مع بيرنز كانت مشروطةً بعدم إعلان التصريحات (off the record) غير أنني لا أخالف الشرط لأن ما أنقله هنا هو رأي معلن وسبق أن كتبه السيد بيرنز في مقال في "النيويورك تايمز".

التجربة العراقية منذ 2003 وقبلها وخلالها التجربة الأفغانية وأظن اليوم التجربة الجارية في سوريا في مرحلتها الجديدة تقول أن الإيرانيين يمكن أن يقيموا تفاهمات فعالة ولو من موقع صراعي سياسي. ولماذا ننسى أن الستاتيسكو الأمني القائم بين إيران وإسرائيل على الحدود مع لبنان منذ ما بعد حرب 2006 هو ستاتيسكو ناجح رغم تطاير "القذائف الكلامية" الدائم. أضِف إلى كل ذلك أن عهد ترامب معنيٌّ مباشرة بإيران كدولة وكنظام وتركيزه عليها أساسا وليس على فرعها"حزب الله" إلا جزئياً، مما يعني أن احتمال المفاجآت العسكرية يمكن أن يأتي أكثر خارج لبنان. على أي حال، ورغم فوضى عهده العامة، وهذا شأن أميركي داخلي أساساً، تحْمل مرحلة دونالد ترامب في المنطقة قدرا أقل من الخبث عن سابقيه، لا من حيث حجم العدوانية المعلنة ضد الفلسطينيين، فقط، بل من حيث تركيزه على الأصل (إيران) لا الفرع (حزب الله). فأسلافُه حاولوا أحيانا تركيز العقوبات على كل لبنان كما لو أنه الأصل وليس كما يفعل هو، أي التركيز على الأصل حتى لو أبقى بل أضاف في معاقبة بعض الجوانب اللبنانية . بهذاالمعنى كان الأصل مختبئا في الفرع وليس الفرع المختبئ بلبنان.

السفير الروسي في بيروت يعتبر منذ البداية أن تحريك إسرائيل لموضوع الأنفاق ليس أكثر من مناورة جديدة.