إصرار الحكام الإيرانيين الحاليين على زيادة التحدي والعناد، ورفض التهدئة والتفاهم والحوار، وهم يواجهون أخطارا حقيقية تنذر بعواقب كارثية على نظامهم نفسه وعلى شعوبهم، أمرٌ لا يُقره عقل ولا حكمة.
 

يسلك الحكام الإيرانيين اليوم، وهم يواجهون مأزق العقوبات الأميركية وتداعياتها، والاحتجاجات والاضطرابات الداخلية التي لا تتوقف، نفس سلوك صدام حسين في آخر أيام حكمه، وهو يواجه احتمالات الغزو الأميركي للعراق، ونفس طريقة معمر القذافي وهو يرد في خطابه الأخير الشهير “زنقة زنقة” على المواجهات التي اندلعت في بنغازي بين جيشه ولجانه الشعبية وبين المعارضة (الإسلامية) المدعومة من “إخوتنا في قطر” على حد وصفه.

فقد زاد صدام حسين من منسوب شكواه من عدوانية أميركا ومخالفتها للشرعية الدولية، ومناشداته الضمائر الحية في أميركا والعالم وحثها على الوقوف معه ضد العدوان المرتقب، وخطاباته الحماسية التي أراد بها استثارة الحمية والشهامة الوطنية عند العراقيين، والقومية العربية عند العرب الأقحاح، والدينية الإسلامية عند مليار المسلمين في العالم، مع تصعيد الحماسة في خطابات التهديد والوعيد التي راح يطلقها هو وقادته العسكريون والمدنيون، معلنين فيها عن تصميم الشعب العراقي كله والأمة العربية كلها والإسلامية أجمع، على وضع نهاية مذلة لعصر الهيمنة الأميركية إذا ما أقدم بوش الصغير على حماقة غزو العراق. وكان ما كان، ولم ينجده أحد.

أما الراحل القذافي فقد لجأ في خطابه الأخير إلى بيان عدم وطنية المتمردين في بنغازي، واعتبارهم ضحايا حبوب هلوسة أعطيت لصغارهم لمهاجمة مباني الحكومة، واستيلائهم على دبابات الجيش ومراكز الشرطة، وعبثهم بالأمن الوطني، من جهة، ومن جهة أخرى راح يستجدي الشعب الليبي بعد فوات الأوان، ويحثه على الخروج إلى الشوارع للدفاع عن أمنه وثرواته التي يحسده عليها الطامعون العرب والأجانب.

القادة الإيرانيون اليوم يفعلون الشيء ذاته بالتمام والكمال. فهم يَجهدون في إقناع المواطن الإيراني بأنه الضحية الأولى والأخيرة لعقوبات أميركا، وأنه المستهدف بسياساتها العدوانية دون سواه، وأن عليه أن يزيد من التحامه بالحكومة وأن يتحمل مراراته كلها، ويتنازل عن حريته وأمنه ورزق عياله من أجل الانتصار المؤكد القريب على الأميركان وحلفائهم، والدفاع ليس فقط عن حاضره وغده، بل عن تاريخه العريق المديد.

الحكام الإيرانيين، وقبلهم القذافي وصدام، يتحملون القسط الأكبر من اللوم على ما حل بشعوبهم من مآزق وكوارث، أكثر من الولايات المتحدة وحلفائها، لأنهم أهم وأقوى أسباب تلك الكوارث بعنادهم وعنجهيتهم، وباختيارهم سياسة المواجهة والمكاسرة مع أميركا وحلفائها، ولكن بالعضلات والشعارات التي لم تنفع أحدا قبلهم بشيء.

ففي مؤتمر عن الإرهاب والتعاون الإقليمي حضره رؤساء برلمانات أفغانستان والصين وباكستان وروسيا وتركيا هدد الرئيس الإيراني حسن روحاني دول أوروبا وأميركا بـ”طوفان” من المخدرات واللاجئين والهجمات إذا ما أضعفت العقوباتُ الأميركية قدرة إيران على التصدي لهذه المشكلات. وعن العقوبات الأميركية قال “إننا نواجه هجوما شاملا لا يهدد استقلالنا وهويتنا فقط بل هو يهدف كذلك لضرب علاقاتنا التاريخية”. كما جدّد تهديده بإغلاق مضيق هرمز إذا حاولت الولايات المتحدة منع بلاده من تصدير نفطها. ثم نقلت وكالة تسنيم للأنباء عن قائد الحرس الثوري الجنرال محمد علي جعفري قوله “لدينا القدرة العلمية التي تتيح زيادة مدى صواريخنا، لكن هذا ليس ضمن سياستنا الحالية، لأن معظم أهداف الأعداء الإستراتيجية تقع بالفعل ضمن مدى 2000 كيلومتر. هذا المدى كافٍ لحماية الجمهورية الإسلامية الإيرانية”. أما قائد سلاح الجوّ الإيراني الجنرال عزيز نصير زاده، فقد زايد على جعفري وأعلن أنهم يسعون إلى زيادة مدى صواريخهم، قائلاً “إن أحد أهم برامجنا هو زيادة مدى الصواريخ والذخيرة. لا نرى أي قيود علينا في هذا المجال”.

إصرار الحكام الإيرانيين الحاليين على زيادة التحدي والعناد، ورفض التهدئة والتفاهم والحوار، وهم يواجهون أخطارا تنذر بعواقب كارثية على نظامهم نفسه وعلى شعوبهم، أمرٌ لا يُقره عقل ولا حكمة. رغم علمهم بأن الحل الأسلم والأنفع والأكثر حفظا لماء وجوههم أمام شعوبهم والعالم سهلٌ وأبسط من البسيط، وهو الكفّ عن التحدي والتهديدات غير المجدية، واعتماد سياسة التراضي مع الداخل، والحوار العقلاني مع الخارج، وطيّ الأحلام القومية العنصرية التي ماتت وأكلتها أتربة القرون الماضية، ولم تعد تصلح لعالم التجوال الحر على المريخ.

وبدل المكابرة والنفخ في رماد النيران النائمة يمكن أن يأمر الولي الفقيه بجرة قلم واحدة، بالتوقف نهائيا عن تمويل فرق القتل والحرق والنهب في العراق وسوريا واليمن ولبنان وفلسطين في الخارج، ومواجهة الفاسدين من المعممين المقربين منه والمحسوبين عليه في الداخل، وإنفاق الأموال الإيرانية على الملايين من المواطنين المعوزين، وعلى الإعمار والبناء، وإنعاش التجارة والصناعة، وإعادة العلاقة الحميمة بين الدولة الإيرانية وجيرانها ومع العالم. أليس هذا أنفع لهم ولشعوبهم وللمنطقة والعالم؟

فلو أنفق صدام حسين نصف ما ورد على الخزينة العراقية على الإعمار والبناء وإنعاش الاقتصاد وتسهيل حياة مواطنيه وضمان كراماتهم وأرزاقهم لهبت ملايين الشعب العراقي للدفاع عنه وعن نظامه، ولكان ما زال يدخن السيجار الكوبي، ولاحتفل بتتويج ولده قصي وليا لعهده الأمين.

والقذافي مثله. لو طوى كتابه الأخضر، وألغى جماهيريته وأقام على أنقاضها دولة مؤسسات وعدالة وسلطة قانون، ولو أنفق على مواطنيه المعارضين قبل المؤيدين، نصفَ مليارات النفط الليبي التي هرَّبها هو وأولاده إلى الخارج، أو التي بعثرها على أحزاب وحركات مسلحة هنا وهناك، لكان ما زال في خيمته إلى الآن، وسيفُ الإسلام، وليُّ عهده، يدير مملكة آل القذافي بأمان.

إذا كان الوقت المناسب كان قد فات على عودة حقيقية لصدام والقذافي إلى العقلانية والواقعية، بعد عمر طويل من الحكم بمفاهيم حروب عنترة وخالد بن الوليد وعمر المختار، فحبل النجاة أمام الحكام الإيرانيين ما زال متوفرا، ويمكن التقاطُه وحماية نظامهم وشعوبهم من عذابٍ أليم وطويل قبل أن يقع الفأس بالرأس، ويحدث لطهران ما حدث لطرابلس وبغداد، فهل يفعلون؟