ليس هناك، عموماً، من يبقى في مكانه. إمّا أن يتقدّم أو أن يتراجع. محلياً، هناك تراجع على جميع الأصعدة. بالتأكيد ينبغي التحسّب والتروّي هنا، والتدقيق في التوصيفات المعطاة لأوضاعنا العامة، اقتصادياً وسياسياً وثقافياً، وتحاشي المَيْل إلى المبالغة والتضخيم قدر الإمكان. لا يُمكن مع هذا، المكابرة على وقائع الكبوة، الانكماش، الانطواء، التصدّع، التآكل، التراجع، وليس هناك بعد ما من شأنه أن يُحدث ضغطاً نوعياً حقيقياً من أجل إيقاف هذا التراجع.

لأجل هذا، لا ينفصل الموضوع الحكومي عن المناخ التراجعي العام في البلد، حتى بالنسبة إلى سنوات قليلة سابقة، كنّا فيها في عزّ الشقاق والتصادم، وعشنا فيها تجارب مختلفة من تعطيل المؤسسات وتفريغها واعتراض مرجعية القانون والتحايل عليها.

من المسؤول؟ لكل مجموعة قناعاتها وتحديدها الخاص لمسؤوليات سواها. يصعب استثناء أي مجموعة من المسؤولية، وإن كانت المسؤولية متفاوتة في ما بينها.

كيف يمكن إيقاف هذا التراجع المتواصل؟ بإقرار الجميع بأنه حاصل، بأنه واقع يميل الى التوسّع والازدياد، وبأن الامور لم تصل مع هذا الى الكارثية، وبأن ثمة مضادات حيوية عديدة وأساسية ما زال يفرزها البلد في كل قطاع.

التراجع الاساسي، في السياسة، مرتبط بالتراجع عن الخوض في القضايا الأساسية، بحجة أن الاولوية لمعالجة اليوميات، فكانت النتيجة، مع التعطل المؤسسي أنه قطعنا سبيل الخوض في الأساسيات، وانقطعت بنا طريق معالجة اليوميات في الوقت عينه. طالما أن قضايا السياسة الدفاعية، سيادة القانون، قرار الحرب والسلم، السياسة الخارجية، السياسة الاقتصادية، النموذج الاقتصادي، المنطلق الذي على أساسه يجري تطبيق بند العدالة الاجتماعية الوارد في مقدمة الدستور، اللامركزية، استُبعدت تباعاً عن جادة النقاش والتداول في البلد، لصالح كلام في الآنيات طرح نفسه أكثر واقعية وعملانية، فما الذي كان منتظراً ومأمولاً بعد ذلك، سوى تضخّم منسوب العبثية في الخطاب، الطائفي تارة واللاطائفي تارة، وتآكل كل المعايير للقياس والمقارنة؟

كل يوم نناقش في رقم عدد الوزراء بشكل بات منفصلاً عن أي نقاش في العناوين الأساسية للسياسة في أي بلد، ناهيك عن العناوين الخاصة بلبنان، في يوم يرتفع العدد وفي يوم ينقص، والأيام تمضي، والبلد في كل يوم الى تراجع، تراجع منتظم، هادىء، حزين، وهذا أخطر ما في الأمر، كأنه تراجع متواصل يتفادى الصدمات.

فالمسألة مزدوجة: مشكلة نظام سياسي، ومشكلة حياة سياسية.

الحياة السياسية لم تتعرّف بعد على وجه لعيشها مجدداً يجاوز القسمة بين 8 و14 آذار، فيما هي لا تستطيع عيشها تماماً من خلال التصرّف كما لو أن هذه القسمة ما زالت قائمة تماماً. لا هي غادرتنا ولا هي لا تزال قائمة.

النظام السياسي: تراجع فيه الاحتكام الى نصوص الدستور بشكل متعاظم في السنوات الاخيرة، مرة تحت الأثر المباشر للتغلّب واللاتوازن بين الفرقاء، ومرة بحجة الميثاق والتوافقية والأعراف المرتجلة. في الوقت نفسه، تتغذّى عملية الابتعاد عن الدستور هذه من "البياض" بين سطور الدستور، من "المناطق غير المغطاة دستورياً" بشكل كافٍ، والتي تُضفي نوعاً من الغموض على اللعبة المؤسساتية في لبنان، تستثمرها أكثر فأكثر القوى غير الراغبة من أساسه في لعبة مؤسساتية، قوامها الأول والأخير، إحياء الفصل بين السلطات الدستورية الثلاث، الذي عرفته التجربة اللبنانية سابقاً أكثر مما تعرف منه الآن، رغم كل شيء.