اللبناني متروك لقدره.
 
لا دولة تحميه وترعى حقوقه وتلبي إحتياجاته. مصيره الوطني والشخصي رهينة الصراعات الإقليميّة التي تحيط ببلده.
 
المؤشرات تتجمّع وتهدّد بلده بانهيار مالي وإقتصادي، في ظل لامبالاة المسؤولين وإهتمام دولي هامشي. حتى أن هذا القليل من الاهتمام الدولي يبدو انه نتيجة الحرص على ثبات وضع النازحين السوريين أكثر ممّا هو تجاوب مع المعاناة اللبنانيّة.
 
الشعور السائد لدى معظم اللبنانيين هو انه لا أمل في مستقبل في هذا البلد.
 
أمام هذا الواقع لن يجد اللبناني سوى داعم واحد محتمل: اللبناني الآخر الذي يعيش معه!
 
فهل يتعاطف اللبنانيون "إنسانيًّا" بعضهم مع بعض ويواجهون متعاونين أزماتهم الحادة؟
 
يبدو السؤال عكس التاريخ: عكس التشنجات المذهبية والطائفية السائدة، عكس ضعف القوى "المدنية" المختلطة التي حاولت ان تشكل بدائل سياسية وقدمت بعض الأمثلة لأشكال من التعاطف والتعاون بين اللبنانيين من مختلف المذاهب والطوائف.
 
التعاطف الإنساني يفترض نزعة "إنسانويّة" لم تتطوّر في البلدان الأخرى إلاّ برفقة القيم العلمانيّة التي جعلت من الانسان الهدف والقيمة الأعلى بغض النظر عن انتماءاته الآثنيّة والمذهبيّة والطائفيّة والطبقيّة والجندريّة.
 
لكن التاريخ وتاريخنا بالتحديد مليء بتجارب "إنسانوية" على رغم كل العوائق الثقافيّة والمجتمعيّة.
 
أعود الى الدراسة التي انجزتها بعد الحرب مباشرة ورصدت فيها كل الأفعال الجماعيّة التي نظمت ضد الحرب في عز الانقسامات واحتدام الصراع الأهلي. لقد تبيّن لي انه تم تشكيل تسع عشرة جمعية ابتداء من العام 1975 هدفها الأساسي مواجهة الحرب. كما تم تنظيم 114 تحركًا جماعيًّا في إطار المقاومة المدنية للحرب. وقد تصنفت هذه التحركات حسب نوع التعبير الذي لجأت اليه على الشكل التالي:
 
- 30 نشاطًا ثقافيًّا (معارض رسم ودورات تثقيفيّة وغيرها).
 
- نشاطان مدرسيان ( زيارة بين مدارس من طوائف مختلفة مثلاً).
 
- 4 أنشطة رياضيّة بين المناطق.
 
- 6 أنشطة كشفيّة مختلفة.
 
- 20 لقاء بين ممثلين من مختلف المناطق.
 
- 15 تحركًا رمزيًّا (حملة تبرّع بالدم "من جميع اللبنانيين الى جميع اللبنانيين"، ارتداء الأبيض، توزيع الأزهار والحلو وغيرها).
 
- 37 تحركًا ضاغطًا (اضرابات واعتصامات ومسيرات وتظاهرات كان ابرزها تظاهرة الاتحاد العمالي العام والهيئات المدنية التي خرقت الحواجز ووصلت بين شطري العاصمة في منطقة المتحف.
 
حلّلت الدراسة العوامل التي ساهمت في تطوير الظاهرة ومن بينها: ترابط المطلب الوطني (وقف الحرب) مع المطلب المعيشي (وقف تدهور سعر صرف الليرة اللبنانية)، تفكك نظام الميليشيات والانقسامات داخل "الصف الواحد"، دور الاتحاد العمّالي العام الموحد والمستقل في استقطاب هيئات المجتمع المدني وتحويل الظاهرة الى ظاهرة شعبية وخاصة سنتي 86 و87.
 
لا تشبه الظروف الحالية الظروف التي كانت قائمة ابان الحرب والتي ساهمت في قيام ظاهرة المقاومة للحرب. لكن هذه الظاهرة وإعادة التذكير بها، يمكن ان تساهما في تكوين صورة أكثر إيجابية للشعب اللبناني عن نفسه وبعث بعض الأمل بقدرة هذا الشعب على تنظيم تحركات جماعيّة مهمة في ظروف شديدة الصعوبة وكبيرة الخطر.
 
لا ارى في الظروف "الموضوعية" الحالية إمكان تطوّر حالة "مدنية" لمواجهة الأزمة الوطنيّة والإقتصاديّة. لكن في المقابل أدعو الى عملية رصد أكثر دقّة للحركات والحملات المدنيّة المتنوعة وما تحمله من طاقات وعدم الإكتفاء بتقييم متسرع لهذه الحركات يستند حصرًا الى محدوديّة تأثيرها أو الى حجم تمثيلها في الانتخابات النيابيّة.
 
في العودة الى السؤال الأساسي ما اذا كان اللبنانيون سيتعاطفون إنسانيًّا بعضهم مع بعض في مواجهة معاناتهم المشتركة، سألجأ الى التفتيش عن الأمل في التكوين الإنساني أو في طبيعة الإنسان بدل التعويل على الظروف "الموضوعية" التي تدعو الى اليأس.
 
فبعدما كان الفلاسفة وعلماء النفس يختلفون حول الطبيعة البشريّة متسائلين ما اذا كانت عدوانية ومصلحية او انها طيبة وتسعى الى الإخاء والتعاون، حسم علم الأعصاب الأمر مكتشفًا الأساس البيولوجي لـ"التعاطف الإنساني"، أي ان كل إنسان "مجهّز" بيولوجيًّا في خلايا الدماغ لـ"التعاطف إنسانيًّا" مع الآخرين، أي للإحساس بمشاعرهم والتفاعل معها، وهذا ما يجعل منه كائنًا إجتماعيًّا.
 
ويضيف علماء الأعصاب ان القدرة على التعاطف الإنساني ليست واحدة عند كل الناس بل تتأثر بفعل التربية والبيئة التي يعيش فيها الإنسان.
 
يمكنني ان انام قرير العين بعد الأمل الذي زرعه في نفسي علم الأعصاب. إلاّ اذا تبين ان "التعاطف المذهبي" يدمر خلايا "التعاطف الإنساني" في الدماغ.