تشكيل حكومة لبنانية في ظل المعطيات الداخلية والإقليمية والدولية ضرورة. لكن الأولوية تبقى للتأني من جهة، وعدم إضاعة البوصلة من جهة أخرى. تتمثل البوصلة في سلاح حزب الله وخطورته على كل لبناني وعلى مستقبل أبنائه.
 

في ظلّ الأزمة العميقة التي يعاني منها لبنان على كل الصعد، تحصل بين الحين والآخر أحداث تتسم بالطرافة أكثر من أي شيء آخر. من بين هذه الأحداث، على سبيل المثال وليس الحصر، تظاهرة نظّمها في بيروت ما يسمّى “حزب سبعة” أمام مكاتب الهيئة المعنية بجباية ضريبة القيمة المضافة. هل هي تظاهرة عفوية، تلك التي قام بتنظيمها “حزب سبعة”؟ ثمّة من يعتقد ذلك، وثمة من يشكّ في أن يكون لمثل هذه التظاهرات أي طابع عفوي من أيّ نوع، خصوصا إذا أخذنا في الاعتبار أن كلّ التحركات التي جرت تحت غطاء “المجتمع المدني” كانت تحركات مدروسة بأدق التفاصيل في ظلّ وجود “حزب الله” خلف الستار. من يتذكّر تلك التحركات أيّام حكومة الرئيس تمام سلام وما تخللها من تخريب للمنشآت العامة؟ كان هناك تخريب من أجل التخريب وقتذاك!

ليس معروفا، بل معروف أكثر من اللزوم، من يحرّك مثل هذا النوع من الأحزاب التي تدّعي تمثيل المجتمع المدني والتي نبتت فجأة في ظروف أقلّ ما يمكن أن تُوصف به أنّها غامضة، حتّى لا نقول شيئا آخر. لكنّ المعروف أن كلّ هذه التحركات من النوع المشبوه، لا لشيء سوى لأنّها ساهمت ولا تزال تساهم في التغطية على المشكلة الأساسية التي يعاني منها لبنان. تكمن المشكلة الأساسية في السلاح غير الشرعي الذي يسمح بوجود دولة ضمن الدولة. دولة صارت أكبر من الدولة وأقوى منها.

هذه مشكلة قائمة ومستمرّة منذ العام 1969، تاريخ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم الذي حذّر منه ريمون ادّه، السياسي اللبناني الوحيد الذي امتلك وقتذاك شجاعة تسمية الأشياء بأسمائها. كان ريمون ادّه الزعيم الماروني الوحيد الذي لا يقبل بأن يكون رئيسا للجمهورية بأي ثمن. كان يضع مصلحة لبنان فوق مصلحته الشخصية وفوق رغبته المشروعة في أن يكون رئيسا للجمهورية.

بوجود المشكلة الأساسية التي اسمها سلاح “حزب الله”، أي السلاح المذهبي غير الشرعي، تهون كلّ المشاكل الأخرى في وقت صار مصير لبنان كلّه على المحكّ بعدما تبيّن بكل وضوح أن الهدف الإيراني الحالي يتمثل في تشريع السيطرة على الدولة اللبنانية، أو ما بقي منها، عبر تشكيل الحكومة الجديدة.

الأكيد أنه ليس سعد الحريري، رئيس الوزراء المكلّف، من سيعمل على تشريع الوصاية الإيرانية. لا يستطيع سعد الحريري توفير غطاء للوصاية الإيرانية. هذا كلّ ما في الأمر. ما هو أكيد أكثر من ذلك، أنّ المطروح لبنانيا عمل كلّ شيء من أجل تفادي حكومة تحت سيطرة “حزب الله”، أي سيطرة إيران في وقت هناك إصرار أميركي، أقله ظاهرا، على وضع حدّ للمشروع التوسّعي الإيراني. بكلام أوضح، أن على لبنان، بما بقي فيه من قوى حيّة، منع السيطرة الإيرانية عليه وتحويله ورقة في لعبة لا يمكن أن تجلب له سوى الخراب والدمار والبؤس.

ليست العقوبات الأميركية على إيران مزحة في أي شكل. إنّها مسألة جدّية لا يستطيع لبنان التعاطي معها باستخفاف. المهم أن تتشكل حكومة ضمن موازين معينة وفي ظل احترام للدستور. مطلوب حكومة تأخذ في الاعتبار أن لبنان ليس جزيرة وأنّ عليه قبل كلّ شيء الامتناع عن السقوط في الفخّ الذي تنصبه له إيران التي بدأت تفقد أعصابها.

ما يدلّ على الدرك الذي بلغته إيران في أيامنا هذه، وإلى أيّ مدى تبدو مستعدّة للذهاب بعيدا في مواجهة العقوبات الأميركية، الكلام الصادر عن الرئيس حسن روحاني أخيرا والذي يتحدث عن ردّ إيراني على العقوبات الأميركية يشمل “إغراق الغرب بالمخدرات واللاجئين”. نبّه روحاني أوروبا، التي عارضت بشدة انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، إلى أن مسائل كثيرة على المحك في جهودها للالتفاف على العقوبات الأميركية والاستمرار في التجارة مع إيران. توقع “طوفانا” من المخدرات واللاجئين والهجمات على الغرب إذا أضعفت العقوبات الأميركية قدرة إيران. قال روحاني “أحذّر من يفرضون هذه العقوبات من أنه إذا تأثرت قدرة إيران على مكافحة المخدرات والإرهاب… فلن تكونوا في مأمن من طوفان المخدرات والساعين للجوء والقنابل والإرهاب”.

أدلى روحاني بتصريحاته العلنية في مؤتمر عن الإرهاب والتعاون الإقليمي حضره رؤساء برلمانات من أفغانستان والصين وباكستان وروسيا وتركيا.

إذا كان مثل هذا الكلام الذي يتسّم بالعنف يصدر عن شخصية إيرانية توصف بأنّها معتدلة، فما الذي تركه الرئيس الإيراني للمتطرفين الذين يعتقدون أن إيران قوّة عظمى، وأنّ في استطاعتها مواجهة العالم وليس الاكتفاء بإعلان سيطرتها على أربع عواصم عربية بينها بيروت.

لا يكون صمود لبنان بتظاهرة من هنا وأخرى من هناك تدعو إلى تشكيل الحكومة سريعا. صمود لبنان يبدأ برفض كلام حسن نصرالله و”المعايير” التي يضعها حزبه لتشكيل حكومة. صمود لبنان يكون باستيعاب أنّ هناك محاولة انقلابية تنفّذ على مراحل في لبنان. هناك أطراف تلعب دورها في سياق تنفيذ هذه المحاولة. بعضها عن حسن نيّة وبعضها الآخر عن سوء نيّة. لن يحلّ تشكيل الحكومة أيّ مشكلة في حال كان مطلوبا الرضوخ لمشيئة “حزب الله” والذين يقفون وراءه في إيران أو الذين يحرضونه في دمشق تنفيسا لأحقادهم على لبنان واللبنانيين وعقدهم تجاه هذا البلد الذي لا يزال فيه من يسعى إلى تفادي الفتن. في أساس هذه الفتن الرغبة الإيرانية في تحقيق اختراق سنّي ودرزي عبر الحكومة التي يسعى سعد الحريري إلى تشكيلها.

من المفيد اقتناع الذي يتحركون حاليا من أجل الإسراع في تشكيل حكومة تكون على قياس “حزب الله” أن يتذكروا أن إيران التي تقف وراء هذا الحزب غير مهتمة بلبنان واللبنانيين. كل ما تريده هو الحصول على أوراق تعتقد أن في استطاعتها استخدامها من أجل عقد صفقة مع “الشيطان الأكبر” الأميركي و“الشيطان الأصغر” الإسرائيلي. أين الضجة الإيرانية وتلك التي يثيرها محور الممانعة عادة بعد زيارة بنيامين نتنياهو لمسقط؟

في مرحلة العقوبات الأميركية الجديدة على إيران، وعلى كلّ من يتعاون معها أو يساعدها، واكتشاف الأنفاق التي أقامها “حزب الله” في منطقة عمليات القوة الدولية في جنوب لبنان والاستنفار الإسرائيلي عند “الخط الأزرق”، لم يعد أمام اللبنانيين من خيار آخر غير الحذر الشديد. عليهم زيادة درجة الحذر بسبب الأوضاع الأوروبية، خصوصا في فرنسا حيث يواجه الرئيس إيمانويل ماكرون أزمة داخلية حقيقية ستدفعه، على الأرجح، إلى إعادة النظر في حكومته مع ما يعنيه ذلك من شلل، وإن كان موقتا، على صعيد السياسة الخارجية الفرنسية.

يقول المنطق إن تشكيل حكومة لبنانية في ظلّ المعطيات الداخلية والإقليمية والدولية ضرورة. لكنّه يقول أيضا إن الأولوية تبقى للتأني من جهة، وعدم إضاعة البوصلة من جهة أخرى. تتمثّل البوصلة في سلاح “حزب الله” وخطورته على كلّ لبناني وعلى مستقبل أبنائه، على كلّ سني وشيعي ودرزي ومسيحي…