السيرة الذاتية للشاعر والكاتب المسرحي الإسباني فريدريكو غارسيا لوركا (1898 – 1936)، تجعل من أعماله الشعرية والمسرحية وسيرته الذاتية نموذجاً للعلاقة بين الفنان والسلطة القمعية.

لذلك فقد استُلهمت هذه المسيرة الفنية والحياة الشخصية في عدد من الأعمال المسرحية والسينمائية، ومنها العرض الذي تم اختياره من قبل لجنة التنظيم في مهرجان لبنان الوطني للمسرح (3 إلى 10 كانون الأول)، ليكون عرض الافتتاح لمسرحية "البحر أيضاً يموت"، من إخراج أنطوان الأشقر، ومن أداء أنطوان الأشقر ويارا زخور.

لا يقدم هذا العرض المسرحي لحياة غارسيا لوركا الشخصية وحسب، بل يدمج معها بجهد بارز على مستوى النص، وبجهد بارز على مستوى الأداء التمثيلي، مقاطعاً من الأعمال الشعرية للوركا، ومشاهد من أعماله المسرحية التي كتبها، ليتداخل في أداء المؤديين الشخصيات الواقعية القادمة من حياة غارسيا لوركا، والشخصيات المسرحية التي كتب عنها وعالجها في مسرحياته، مما يتطلب حرفية على المستوى الدراماتورجي، وتقنيات عالية من قبل الممثليّن، وإيقاع مناسب على المستوى الإخراجي، للدخول والخروج بين مستويات الشخصيات التي تعرضها المسرحية على الخشبة.

يرسم الإطار العام للمسرحية ، بما ورد في بيانها: "إسبانيا، 19 آب 1936، عشيّة الحرب الأهليّة الإسبانيّة، في أحد المعتقلات، إنها الساعة الأخيرة من حياة فديريكو غارسيا لوركا قبل أن يعدمه الفاشيّون لأفكاره التقدميّة والتحرريّة. يمر شريط حياته من طفولته حتى شبابه انخراطه في عالم الشعر والمسرح، حياة غنية ومليئة بالشغف والفن. ذكريات سعيدة وأليمة يمر بها في ساعته الأخيرة مستحضراً روحه الأندلسية وصوراً من أهم مسرحياته".

السعي نحو التجديد الشعري الفني
لايقل أهمية مستوى التجديد الشعري والفني عن باقي أنواع المواجهة التي عاشها وجسدها غارسيا لوركا في علاقته مع السلطة. ولإدراك المقصود بالتجديد الشعري والفني، وما يواجهه من قمع على مستوى السلطة، نعود إلى إسبارطة، 300 قبل الميلاد، هذه الحضارة التي شرح عنها المؤرخ بلوتارك الذي وضح لنا أن فلاسفة الموسيقى في إسبارطة حظروا أي خروج على القواعد القديمة للموسيقى. وشددوا العقوبات المنزلة بالموسيقيين المجددين: "لقد كانوا يحترمون موسيقاهم القديمة، في جديتها وبساطتها، إلى حد أنهم لم يسمحوا بأي انحراف عن القواعد السائدة ومقاييسها، حتى أن مجلس القضاء الأعلى، وبناءاً على شكوى تلقاها، قد أوقع عقوبة شديدة على ترباندر".

لقد تعرض ترباندر لأشد العقوبات لأنه جدد في الفن الذي امتهنه أي الموسيقى، من هنا تأتي العلاقة الوثيقة بين السلطة وبين التقليدية في الفنون، وبهذا تصبح محاولات التجديد في الشعر والتعبير اللغوي التي انهمك فيها غارسيا لوركا واحدة من مستويات المجابهة بينه وبين السلطة.

يعود بنا عرض "البحر يموت أيضاً" إلى غرناطة – اسبانيا مكان ولادة لوركا، ويطلعنا على وتساؤلاته التي أدت به إلى اكتشاف الشعر والميل إلى الفنون، والأهم محاولاته المستمرة في إثارة الأسئلة حول الشعر، والتجريب الفني.

كانت اسبانيا في أوائل القرن العشرين قد عرفت عدة حركات تجديدية في الفن والشعر، منها: حركة الموديرنزم، حركة جيل 98، والتيارات الطليعية، التي منها السريالية. تواصل العديد من الشعراء والفنانين الإسبان مع التيار السريالي في باريس في تلك الحقبة، وعملوا على إنتاج أعمال فنية تتقارب مع رؤاها وتقنياتها، من أهم الفنانين الإسبان المنتمين إلى التيار السريالي كان السينمائي لويس بونويل، والشاعر رفائيل ألبرتي، والرسام سلفادور دالي.

تعرض المسرحية لمشاهد من لقاءات دالي مع لوركا، والعلاقة الإبداعية التي ربطت بينهما، إلى حين فراق دالي لإسبانيا وإنتقاله للعيش في باريس.
هذا المناخ الفني التجديدي الذي ساد اسبانيا في بدايات القرن العشرين، أدى إلى تميز جمهرة من الكتاب، رغم اختلاف مشاريهم وأهوائهم، بلغوا قمة نضجهم الأدبي خلال عامي 1927 – 1928، فأطلق عليهم لقب شعراء جيل 27، كانوا خلاصة كل حركات التجديد التي مرت قبلهم، وكان لوركا واحداً من أبرز رواد هذه الحركة ومؤسسيها.

يكتب عنهم د. محمود السيد علي، في كتابه الأعمال الشعرية الكاملة للوركا (1998): "تمرد أعضاء هذا الجيل جميعاً على الشعر الرديء أيا كان مبدعه وزمانه، وعلى كل ما هو نمطي في الفن والحياة. بيد أنهم لم يتطرفوا في مفهوم الشعر الخالص، حيث إن معظمهم اهتم بالشعر الشعبي والشعر الغنائي التراثي، وأغاني الرومانس. وراح يلوح في ثنايا أشعارهم قدراً من الإلتزام الإنساني"، هذه هي مواصفات التجربة الشعرية التي أراد لوركا تقديمها عبر مسيرته الشعرية.

في العام 1929، تمنع حكومة بريمو دي ريبيرا الديكتاتورية من عرض مسرحية لوركا "غرام دون برلمبلين"، وفي يونيو من نفس العام يرحل لوركا إلى نيويورك، ماراً بباريس ولندن. وبهذا يتنتقل بنا عرض "البحر أيضاً يموت" إلى المرحلة التي عاشها لوركا في نيويورك، اكتشافه المدينة، دراسته للغة الإنكليزية في جامعة كولومبيا – نيويورك. هذه المرحلة يعمل الكاتب أنطوان الأشقر على رويها مع مقاطع من واحد من أشهر دوواين لوركا الشعرية، وهو شاعر في نيويورك (1930) وفيه تتضح بجلاء سمات خاصة مغايرة لبقية إبداعه الشعري.

العروض المسرحية في القرى والبلدات
في العام 1931، تقوم الجمهورية الإسبانية الثانية، يترك لوركا نيويورك الولايات المتحدة ليعود إلى اسبانيا، ويشارك في الإحتفالات الشعبية بالجمهورية الثانية، التي تشجع حكومتها لوركا على تأسيس فرقة لاباركا المسرحية، التي جعل لوركا للطلبة النصيب الأكبر. قامت فرقة لاباركا بعدة جولات في أنحاء إسبانيا، عرض في المدن والقرى، بغية نشر فن المسرح بين طبقات الشعب. كانت فكرة لوركا التي طبقها بمشاريع فرقته المسرحية، هي إتاحة هذه العروض الفنية إلى الجماهير، والذهاب بالمسرح إلى الأماكن البعيدة عن المركز.

في مقاله "النمور تتعلم الرسم"، (1985) يكتب المسرحي ممدوح عدوان: "الفن السياسي المطلوب هو ذلك الفن الذي يهتم بهموم الإنسان في العالم، ويحاول مساعدته على تخطي هذه الهموم والخلاص منها، لا بالهرب منها أو بالقفز فوقها، بل بالصراع مع أسبابها ومواجهة هذه الأسباب"، إن الإيمان بهذا الدور للعروض المسرحية هي واحد من عوامل المواجهة التي ستقود غارسيا لوركا إلى مصيره المأساوي.مسرح الشخصيات النسائية
في عرض "البحر أيضاً يموت" يكون الانتقال الأول بين شخصيات واقعية من حياة لوركا، وبين الشخصيات المستمدة من مسرحيات لوركا، يتم في القسم الأول من المسرحية المخصصة لطفولة لوركا. هنا يراقب المتلقي مشهداً للوركا صغيراً، يستعمل الدمى ليشبع رغبته في روي الحكايات، وفي إعمال التخييل. نسمع حكايات مسرحيات سيكتبها لوركا في مراحل تالية من حياته.

 

 من عرض "البحر أيضاً يموت"
تالياً، يتوقف الاعتماد على الدمى في تجسيد شخصيات من مسرحيات لوركا، وتصبح الانتقالات بين الحياة الشخصية للوركا وبين شخصيات مسرحياته، من أبرز الجهود التي يقدمها كاتب النص ومخرجه. بأداء مميز تنتقل الممثلة يارا زخور في أداء الشخصيات المتعددة، التي ركز عليها لوركا في مسرحه. نراها في "ماريا بينيدا" (1928) امرأة تغرم بمحارب، فتقع بأيدي الأعداء وتُعدَم. وفي "عرس الدم" (1933) فتاة تهرب يوم زفافها مع رجل متزوج كانت على علاقة به قبل زواجه. لكن لماذا هذا التركيز في معالجة شخصيات نسائية على موضوعة الحب والهوى؟ 

يخصص عرض "البحر أيضاً يموت" جزءاً لدفاع لوركا عن العواطف والغرام. يرى لوركا بالحب كأمثل تجربة إنسانية، لذلك قد كرر لوركا الربط بين الشهوة، العشق، الحب والحرية في تعامله مع الشخصيات النسائية. أما في مسرحيتي "يرما" و"بيت برناردا ألبا" فيشكل لوركا شخصيتين نسائيتين مختلفين عن الغارقات في الهوى والغرام، "يرما" (1934) تجسد حكاية المرأة التي تمردت على التحكم والسيطرة التي يمارسها عليها زوجها في الحياة العائلية، وقراراته برفض الإنجاب والتحكم في مصير العلاقة، مما يؤدي بها إلى ارتكابها جريمة، وقتل زوجها. مسرحية ركز فيها لوركا على الجوانب النفسية للحياة تحت القمع.

مسرحية أخرى يستدعيها عرض "البحر أيضاً يموت" كتبها لوركا وتحتل الشخصيات النسائية فيها الحيز الأساسي، وهي مسرحية "بيت برناردا ألبا" (1936)، هي المسرحية الأخيرة التي كتبها لوركا، حيث يعالج موضوعة المرأة بطريقة مغايرة لعلاقات الحب والحرية، هنا يطور لوركا حكاية أم طاغية على بناتها الخمس، فيها يتقدم شاب للزواج من كبرى البنات الخمس، إلا أنه يتبادل علاقة غرامية مع البنت الصغرى، بهذه الفكرة القصصية يعالج لوركا مسرحياً إشكاليات التربية الصارمة المتقيدة بالعادات والتقاليد على عوالم المرأة النفسية والإجتماعية، وكأنه يقول بأن القمع يؤدي إلى الفوضى.

يحق للفنّ أن يغير العالم
لن نزيد في القول بعد الأصعدة الثلاثة التي عالجناها في حياة وأعمال غارسيا لوركا أن نقول أنه كان من الدعاة لتيار الالتزام في الفن.

في المشهد قبل الأخير من المسرحية تعقد محاكمة افتراضية بين غارسيا لوركا وبين قتلته ومغتاليه. يرمز عرض "البحر يموت أيضاً" لهذه القوى القمعية بملابس مسرحية تبين تقاربهم مع الحركات الكاثوليكية المتطرفة ومع الحركة العنصرية التي نشأت في الولايات المتحدة ضد حقوق السود والمنحدرين من القارة الأفريقية. وهذه مقاربة سياسية دقيقة، لأنه في العام 1936، أعلنت القوات اليمينية في إسبانيا الانقلاب العسكري على النظام الجمهوري، وهي السنة التي  عثر فيه على فريدريكو غارسيا لوركا ملقى وسط أشجار الزيتون بعد أن تمّ اغتياله.

عبر هذه الأصعدة من المواجهة في التجديد الشعري، ودور المسرح في المجتمع، وصورة المرأة في الثقافة الشعبية، وكتابة المقال السياسي، يمكن إسقاط الحكاية التي اختارها عرض "البحر يموت أيضاً" على واقعنا السياسي، والاجتماعي، والثقافي. خصوصاً أن المحاذير والقيود التي قام غارسيا لوركا بمواجهتها ما تزال تقيّد الفن في عالمنا العربي.