تفاجأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالحراك الواسع الذي أظهرته “السترات الصفراء” خلال الأسابيع المنصرمة. تفاجأت المنظومة السياسية التي أرساها الرجل في باريس على نحو صاعق، قد يشبه هول الصدمة التي أصابت الطبقة السياسية التقليدية، حين أطاح بها ماكرون في الانتخابات الرئاسية عام 2017، وشكّل ظاهرة عجيبة خارجة عن المألوف والمعروف في السياسة الداخلية الفرنسية.
 
يخرج أصحاب “السترات الصفراء” عن أي سياق سابق. لا ينتمي هؤلاء النشطاء إلى أحزاب سياسية تصنفهم يسارا أو يمينا، ولا ينطلقون من أُطر نقابية تقود حراكهم وتنظمه وفق تقاليد التاريخ النقابي القديم. يشبه هذا الحراك ذلك الذي انفجر في المنطقة العربية عام 2011، في ما أطلق عليه اسم “الربيع العربي”، من حيث أن الجماعات التي تحركت في تونس، ثم بعد ذلك في مصر وبلدان أخرى، خرجت بشكل عفوي غير منظّم ومن دون قيادة ودون أهداف أيديولوجية محددة.
 
وعلى هذا تبدو فرادة ظاهرة “السترات الصفراء” متناسلة، للمفارقة، من فرادة ظاهرة ماكرون في التاريخ السياسي الفرنسي الحديث، لا سيما في عهد الجمهورية الخامسة منذ عام 1958. فإذا ما ارتجل الرئيس الفرنسي الشاب منظومة سياسية لا تعتمد على الأحزاب التاريخية التقليدية الكبرى، لا سيما الديغولي والاشتراكي منها، وإذا ما تخلى عن منظومات سياسية لها باع عتيق داخل الدولة العميقة، فإن الحراك الشعبي الطارئ يتسرّب، على ما يبدو، من شقوق الزلزال الذي أحدثه ماكرون قبل 18 شهراً داخل جدران البناءيْن السياسي والاجتماعي للبلاد.
 
ومن الحكمة عدم التسرّع في إطلاق الأحكام الجاهزة لدراسة وقراءة ظاهرة “السترات الصفراء” كما عدم التعجل في استشراف مآلاتها في راهن فرنسا، كما راهن أوروبا المحيطة. تراجعت الحكومة الفرنسية عن قراراتها الضرائبية التي فجرت الحراك، فـ”ما من ضريبة تستحق أن تصبح وحدة البلاد في خطر”، وفق رئيس الوزراء إدوار فيليب. بيد أن ذلك لا يعني أن الأمر سيقود إلى هدوء آلي للعاصفة التي هبت على البلاد منذ أسابيع، كما أنه لا يعني أن هذا الحراك الذي دعمه الفرنسيون بنسبة 75 بالمئة، وفق استطلاعات الرأي، لن يفقد، وفق ذلك، مسوغ صعوده ونجاحه.
 
وحدها مارين لوبن، زعيمة حزب “الجبهة الوطنية” اليميني المتطرف، ترى في انهيار ماكرون ومنظومته مصلحة تصبّ مباشرة لصالحها
 
قد يكون أمر الحراك مبهرا لا سابق له. أما الإبهار، فذلك عائد إلى كثافة التغطية الإعلامية المحلية، كما الدولية، لحراك استخدم رمزية “السترات” في اجتياح الفضاء العام. قبل ظهور التسونامي الأصفر لم يكن حراك الفرنسيين جامدا. أخذت تحركاتهم أشكال إضرابات واعتصامات ومظاهرات قامت داخل قطاعات الصحة والنقل والتعليم، لكن التغطية الإعلامية بقيت تقليدية بسبب تقليدية الوسائل وأدوات التعبير. وأما أنه لا سابق له، ففي ذلك جهل بتاريخ فرنسا الحديث وبقصص النضالات الكبرى التي قادتها النقابات الكبرى في عهود سابقة إلى حدّ “إقفال فرنسا” من خلال إضرابات اجتاحت كافة القطاعات الاقتصادية.
 
لا يقارن مستوى العنف الذي شهدته تحركات “السترات الصفراء” بذلك الذي حدث أثناء الولاية الثانية للرئيس الأسبق جاك شيراك. اندلعت عام 2005 “ثورة الضواحي” التي استمرت لمدة 19 يوما شهدت البلاد خلالها مواجهات خطيرة بين المتظاهرين وقوات الأمن، وأحرقت أثناء تلك الأحداث ما يقارب الـ10 آلاف سيارة في البلاد. كان نيكولا ساركوزي حينها وزيرا للداخلية، فوصف المتظاهرين بالرعاع. أشعل هذا الوصف الضواحي قبل أن تخمد، إلا أنه، وللمفارقة، وربما بسبب ما وصف بأنه شجاعة من قبله لمواجهة هذه الفوضى، انتخب بعد عامين رئيسا للجمهورية.
 
لم تحظ “ثورة الضواحي” بأي غطاء سياسي من أحزاب اليمين كما أحزاب اليسار. أجمعت تلك الأحزاب على اعتبار ذلك الحراك فوضويا غير سياسي لا أفق له ينشط داخله “أولاد الشوارع″ أكثر مما ينشط داخله مواطنون.
 
غير أن أصحاب “السترات الصفراء” يبدون متوجسين من أي دعم سياسي من داخل الأحزاب التقليدية يستفيق على وجودهم في البلاد، ذلك أن حراكهم يستبطن نفس الغضب ضدهم، وهو غضب انتخبوا بسببه ماكرون بديلا.
 
بدت المناسبة فرصة لا تعوض لأولي اليمين كما أولي اليسار لتصفية الحساب مع ماكرون الذي أطاح بهم في الانتخابات الرئاسية. فإذا ما امتطى ماكرون حصان العجز الخارج من عهدي الديغولي نيكولا ساركوزي والاشتراكي فرانسوا هولند، فإن التسونامي الأصفر في شوارع فرنسا، يتيح لهم الاستغراق بالشماتة ممن عوّل الفرنسيون كثيرا عليه وحملوه رئيسا إلى الإليزيه.
 
بيد أن لهذا التمرين حدودا، ولهذه الانتهازية الماكيافيلية ضوابط مطلوبة. لا تريد الحكومة في باريس كما أحزاب المعارضة المغامرة في الاستغراق في لعبة الشارع في فرنسا. نشط اليمين المتطرف بشكل كبير داخل هذا الحراك. وحدها مارين لوبن، زعيمة حزب “الجبهة الوطنية” اليميني المتطرف، ترى في انهيار ماكرون ومنظومته مصلحة تصبّ مباشرة لصالحها. طالبت بحلّ البرلمان والتوجه إلى انتخابات تشريعية مبكرة، ذلك أن التيار الشعبوي المتطرف قد يكون بديلا يتّسق صعوده مع صعود نفس التيارات في النمسا وإيطاليا وألمانيا والسويد وهنغاريا..إلخ.
 
من الحكمة عدم التسرّع في إطلاق الأحكام الجاهزة لدراسة وقراءة ظاهرة “السترات الصفراء” كما عدم التعجل في استشراف مآلاتها في راهن فرنسا
 
وعلى نحو مختلف عن “ثورة الضواحي” في العام 2005، يمثل أصحاب “السترات الصفراء” الطبقة الوسطى في البلاد. ينتمي هؤلاء إلى العصب الاجتماعي الرئيسي لفرنسا الذي يجيد التعامل مع شروط العصر وأدواته. ولئن لبّت الجموع نداءات للتحرك ظهرت على وسائط التواصل الاجتماعي، ولئن جاء الحراك انفعاليا ردا على إجراءات تطال القدرة الشرائية المباشرة للملايين من المواطنين، إلا أن جلّ القيادات المرتجلة تجيد التعامل مع الحدث بلغة العقل والعلم والإعلام. وعلى هذا تبدو حكومة باريس أمام خصم يعرف ملفاته، مطّلع على متن القرارات الضرائبية، ومدرك للمسار الفلسفي العام التي تعتمده الـ”ماكرونية” بصفتها منظومة يعتبرونها تحمي الأغنياء.
 
أراد الرئيس الفرنسي الشاب أن يكون رسولا يحمل في خطابه وفي ظروف انتخابه رسالة فرنسية جديدة. ظهرت الـ”ماكرونية” الفتية بصفتها جرعة مضادة لصعود الـ”ترامبية” التي قذفت بها الولايات المتحدة. أطلت في عزّ زلزال البريكست المندفع من بريطانيا، وفي عزّ رواج الخطاب الشعبوي الأوروبي الكاره للاتحاد الأوروبي. كثيرون في العالم عوّلوا على الرئيس الفرنسي الشاب لوقف انزلاق العالم نحو تفكك ينهي خصال استقرار ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما بعد الحرب الباردة لاحقا.
 
أراد الرجل أن يكون نبيا أمميا فتصرف بغرور وعنجهية مع ما يمكن اعتباره تفصيلا داخليا في سيرورة ما يطمح إليه. وجّهت فرنسا صفعة لماكرون قد تساهم في مساعدته على الاستفاقة من غيبوبته والترجل من عليائه. سبق لفرنسا في ثورتها الشهيرة عام 1789 أن أعدمت ملكا وأسست لمنظومات الحداثة وحقوق الإنسان في العالم. وسبق لفرنسا في ثورة 1968 أن أطاحت بشارل ديغول الذي قاد تحريرها من الاحتلال الألماني.
 
يتأمل ماكرون، وهو الذي ارتقت خصاله في السياسة على معرفة عميقة بالفلسفة والتاريخ، البركان الأصفر بصفته امتحانا يجدر الاعتراف بصعوبته وتعقّد حيثياته. قاد الرجل البلاد لوحده مستخدما الكاريزما التي يمتلكها متكئا على حزب ارتجل إنشاءه. قرأ تصويت الفرنسيين بشكل خاطئ، وبدا أن عليه أن يعيد القراءة من جديد.