تسقط القوة المجردة أمام امتحان التحكم بما سيجري في اليوم التالي.
ربما تختصر هذه العبارة مسار الحقبة الأخيرة من تاريخ لبنان. أي السنوات العشر الأخيرة. والغرابة فيها أنها تنطبق على طرفي الصراع، وليس على طرف واحد، وإن كان الأوضح فيها اتجاهها نحو ما كان يسمى فريق 14 آذار. الذي كان يفتقد إلى الرؤية السياسية، أو المشروع والخطّة، للبقاء والصمود. وبالتالي فإن عدم امتلاك الخطط على المدى البعيد، هي التي أفقدت هذه القوى قوتها الشعبية والسياسية، التي كسبتها بلحظة تحولات لبنانية ودولية. في "الجاهلية" سقطت آخر أوراق القوة من يد هذا الفريق، الذي تشتت منذ سنوات.

معنى الانتصار والهزيمة
ضمن 14 آذار، دخلت قوى إلى المسرح السياسي بفكرتين أساسيتيين، الحرية والسيادة، وبناء الدولة. وقامت جماهيريتها على حلم مثّلته شخصيات ورموز نظّرت لهاتين الفكرتين. لكن، ما أسهم في تقهقرها وصولاً إلى النهاية، هو قبولها الدخول في مساومات وتسويات على حساب الثوابت السياسية. وكان المسمار الأخير في نعشها، هي سلسلة التسويات السياسية الأخيرة، التي قامت على مبدأ المصلحية والمحاصصة. وفي هذا التشخيص لا مجال لقبول التبرير المستهلَك المسمى "الواقعية السياسية"، خصوصاً وأن جذر 14 آذار السياسي هو "الانتفاضة"، وبطروحات لتغيير الواقع، علاوة عن أن شعار "الواقعية" هذا بات يمثل شمّاعة للتراجع والتنازل بلا أي كابح، بسبب فقدان الخطاب المتماسك أو الرؤية الواضحة.
وإذا كانت قوة حزب الله وحلفائه، ترتكز على ما يخالف توجهات قوى 14 آذار، إلا أن النتيجة أيضاً كانت مماثلة، رغم اختلاف المواقع. قد نرى حزب الله في موقع المنتصر، مقابل هزيمة المحور الآخر. مع ذلك، لا يجوز الغفلة عن أن الحزب دخل إلى الحياة اللبنانية من بوابتين عريضتين أيضاً. في البداية كان شعار "الجمهورية الإسلامية في لبنان"، ثم كانت "المقاومة" بوجه إسرائيل. في وقت سريع نسبياً تخلّى عن الطرح الأول وخسره تماماً، فيما الطرح الثاني، الذي بقي يرافقه إلى اليوم، لم يعد متطابقاً لا مع تنفيذ القرار الأممي 425 ولا مع القرار 1701، بل وتحول إلى شعار مفرغ من مضمونه يعمل على دمار الدول العربية ويشارك في حرب السورية، التي شهدت التقسيم والفرز الطائفي والمذهبي، على نحو جعل ملايين السوريين، الذين لعهود كاملة كانوا أشد حماسة له من اللبنانيين، ينزعون صفة المقاومة عنه.

وصلت قوة حزب الله إلى مقدرة فرض ما يريده، ونما على أرضه وبنيانه الكثير من الطفيليات في السياسة، التي تجيد فقط استخدام لغة التهجم والوعيد، ولا تملك لغة الحوار أو مخيلة الحلول. هي فقط تنمو وتنتعش في لحظات الأزمات والمواجهات. وآخرها المواجهة التي حصلت في قرية الجاهلية، التي كانت نتيجتها تراجع هيبة الدولة اللبنانية وإحراج من يمثلها، أو يلبس لبوسها.

 

استحقاق السلم
بلغ حزب الله أعلى درجات القوة في لبنان والمنطقة. ما ينقصه فقط ترجمة فائض القوة هذا في مشروع قابل للتنفيذ. حتى الآن، مرتكزه يبقى في إطار السيطرة والتحكم بالتناقضات، كما في افتعال المواجهات واستعراض قوته فيها، ما يتيح له فرض ما يريده في السياسة، سواء كان بتشكيل حكومة أو بإسقاطها، وباختيار رئيسها الذي يرضى عنه أو بعزله متى غضب عليه. إنما اليوم، أمام حزب الله مهمة جديدة على ما يبدو، هي التطلّع إلى مرحلة جديدة، والاستعداد لها، لا تكون قائمة على مبدأ الحروب والمعارك ومنطق القوة. هنا، الامتحان بنظر البعض سيكون صعباً، ولن يكون الحزب قادراً على التعايش مع واقع طبيعي يسوده الهدوء، ولا على ممارسة السياسة بوصفها "سياسة" وليست فعلاً حربياً.

 

عدم قدرة حزب الله على التماهي مع الحالة السياسية السلمية، قد ينعكس تجمّداً سياسياً في مختلف المجالات، محلياً وحيث له نفوذه وقوته وتأثيره. وهذه ربما قد تؤدي إلى تحلل هذه الدول بكيانيتها القائمة. هذا الاحتمال وارد جداً، في حين أن آخرين يتبنون نظرة معاكسة، تعتبر أن الحزب يستطيع اجتراح مفاجآت في الأداء الجديد، الذي سينتهجه حزب الله اضطراراً أو طوعاً، والذي يبدو في مثال سلوكه إزاء حادثة "الجاهلية"، فبدا بمظهر من عمل على إطفاء فتيل التوتر، ومنع حدوث صدام أو اشتباكات مسلحة.

 

حزب الله وبناء الدولة
في الوقت الذي يهتم حزب الله بالإستراتيجيات، يكون قادراً في تكتيكه ولعبة الشطرنج الذي يجيدها، أن يستدرج خصومه إلى النقاش في التفاصيل والتلهي بها. هي حرفة "إيرانية" تجلّت في مفاوضات الإتفاق النووي، يوم كانت طهران تهتم بهذا الإتفاق وليس بغيره، لكنها جعلت مفاوضيها يغرقون لاهين بأحد عشر نقطة، كما غيرهم تائهين حول دورها في المنطقة. هذا ما يفعله حزب الله تماماً. ففي الوقت الذي يتلهى فيه خصومه في لبنان بالصراع مع حلفائه على مواقع ومناصب ومضامين تفاهمات حكم وسياسة وإدارة، يكون هو في مساعيه الإستراتيجية قد حقق المزيد من التقدّم في تحقيق الإنتصار تلو الإنتصار، وتسلم زمام السيطرة في لبنان. حتى يجد نفسه في وضع يصبح فيه حاجة إلى خصومه قبل حلفائه.

 

لا شك أنه مهما حقق الحزب من سيطرة على لبنان، نتيجة تفوقه وقوته، أولاً، ونتيجة ضعف خصومه أو قصر نظرهم أو تلكؤهم، ثانياً، تبقى جملة أسئلة لا يمتلك حزب أجوبة عليها: أي نظام سياسي يريد، شكل الدولة وجوهرها، إسلامية أم علمانية؟ ديموقراطية أكثرية أم توافقية؟ (وما المعنى الذي يفترضه بـ"الأكثرية" وبـ"التوافقية"؟) عدا عن ما هو أصعب: البرامج الإجتماعية والإقتصادية لهذه الدولة؟

 

حسب البعض ستبقى هذه الأسئلة عصية على الإجابات، لأن حزب الله يعيش على الأزمات ويتوسع من خلالها، بينما في التوافقات والمساومات يضيع وهجه وتتبدد قوته. وعلى الأرجح، أن هذا ما سيحظى باهتمام وعناية حزب الله، في المرحلة المقبلة.

 

لقد نجح حزب الله في صناعة أساطير عديدة، لكن من غير المعروف إذا ما سينجح في بناء دولة.