كأنهم يقولون له ضمناً بما أنك الحلقة الأضعف وأكبر الخاسرين في المعادلة السياسية الحالية تنازل واقبل بتوزير سنّي من «اللقاء التشاوري» ضمن حصتك، وإلّا أنت خاسر في كل الحالات.

مرة جديدة وُضع الرئيس المكلف سعد الحريري في «بيت الـ«يك» ولا يُحسد على وضعه البتة. هو من وجهة نظره محقّ في رفضه التنازل ولطالما ردّد أنّ الحلّ ليس عنده ولا حتى المشكلة.

ممّا لا شك فيه أنّ الحريري قد وقع في المحظور، وتعتبر أوساط سياسية مطلعة أنّ قراره مهما يكون، لن يبعده من أن يتحوّل في أحسن الحالات كبش فداء لمَن يستحق ولا يستحق منه تنازلاً كهذا.

حينما طفت العقدة السنّية على السطح فجأة قيل كثير من أنّ «حزب الله» افتعلها لعدم رغبته بتأليف الحكومة ربطاً بما ستؤول إليه الاوضاع الإيرانية مع بدء تطبيق العقوبات الأميركية عليها واستحقاقات إقليمية دولية أخرى. فخاف مَن خاف وتوجّس مَن توجّس من العودة الى التأزّم السني ـ الشيعي والتأجيج المذهبي.

وفي مؤتمره الصحافي، أطلّ الحريري بنبرة واثقة ليردّ على «حزب الله» الذي صعّب مسألة التأليف وربطها بشرط توزير سني من «اللقاء التشاوري» رامياً العقدة في ملعبه، فقال الحريري حينها ما معناه إنه «بيّ السنّة»، ولا غبار على ذلك، وإنه لطالما كان متجاوباً في حلّ الأزمات ولو من كيسه. إلّا أنه هذه المرة لن يتنازل لأجل ما لا يعنيه.

الحريري كان يشعر بالقوة والثقة والصلابة التي بدت جليّة في خطابه، خصوصاً أنّ رئيس الجمهورية ميشال عون، وخلافاً للعادة، كان قد تقاطع معه وبدا داعماً سانداً له في الشكل على الأقل، ففاجأ مَن معه ومَن ضدّه بذلك.

لكنّ المعادلة تغيّرت بعدها بقليل، وعادت الامور الى مربّعها الذي اعتدناه عندما دخل الوزير جبران باسيل الى المشهد السياسي المعقّد وسيطاً يحاول إيجاد مخرج على طريقة لا خاسر ولا رابح وبتنازلات جماعية.

طبعاً في السياسة ليس كلّ ما يُقال يُصدّق، وليس كل ما يُصدّق يُنفّذ. حلّال العقد العنيد لم يفلح هذه المرة واصطدم بمَن هم أعند منه لأسباب غالبها بات معلوماً والقليل منها مجهول، فانسحب من المبادرة بعدما صوّب موقف عون ومعه «التيار الوطني الحر» نحو «ورقة المصالحة» التي لا يمكن لهما التغاضي عنها، وقد كُتبت بحبر داكن ثابت لا يُمحى إلّا على أنقاض وخسائر.

إلّا أنّ ذلك لا يعني أبداً أن يأتي حلّ العقدة من جهة عون وعلى حساب تخليه عن المقعد السني المدرج ضمن حصته - كما يُسرّب من أوساطه - ولو أنه أكبر المتضررين من تأخير التأليف وبالتالي من عدم إنقاذ عهده.

وحده الحريري بدا مجدداً في ورطة جدّية يصعب حلّها بالتي هي أحسن... فلو قبِل بتوزير أحد سنّة «اللقاء التشاوري» ضمن حصته لخسر ما كان يحاول ترميمه من بقايا هيبة وقدرة وحضور قوي فَقَدَ جزءاً لابأس به منها في الآونة الأخيرة جرّاء الضغوط الخارجية والداخلية التي مرّ بها تباعاً. ولو اعتذر عن الـتأليف أعطى الفريق الآخر أكثر ممّا كان يتمناه.

أيضاً وأيضاً فكرة أن تتحوّل العقدة من سنية ـ شيعية الى سنية ـ سنية - كما يحلو للبعض تصنيفها - مربكة للحريري ولا تصبّ في مصلحته، خصوصاً أنه أصرّ على إبقاء الوزير المسيحي في حصّته رغبة بالتنوّع السياسي والطائفي وبعدما اعتبرت أوساط تيار «المستقبل» أنّ باسيل عاد والتحق بمحور «حزب الله».

في المحصلة بقي الجميع على مواقفهم الثابتة وتركوا الحريري مكلّفاً بحمل هذا الوزر السني ـ الشيعي أو السني ـ السني وحده... فإن تنازل تصدّع سياسياً وإن اعتذر بات خارج المشهد السياسي الوازن، وبالتالي «ترك الجَمَل بما حَمَل» لخصومه السياسيين على الجاهز.

وعليه يقول بعض العارفين بالحال إنّ سعد الحريري اليوم في حاجة الى معجزة إلهية تخرجه من العقدة السنية سليماً معافى بلا شعور مضطرد بالاضطهاد السياسي الذي إن استفحل فيه أضرّه أكثر وزاد من وقوعه باللاأمان.

وهنا نسأل: هل لا يزال من فرصة لمنقذ حقيقي قوي قادرعلى انتشال الحريري من ورطته في التوقيت والطريقة المناسبين؟ وهل صحيح أنّ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون هو الوحيد الذي في إمكان االحريري التعويل عليه في أزمته تلك؟ وكيف؟

غداً لناظره قريب، والجواب لن يتأخر طالما أنّ الثمرة (لبنان) قد غلّفها العفن تماماً وستسقط عن الشجرة بين لحظة وأخرى. وفي لبنان وكما اعتدنا، يُقطف الحلّ أو التسوية السياسية في الثواني الأخيرة التي تسبق الوقوع في الهاوية.