مَسار الإدارة القضائية السيّئ الذي يشكو منه المحامون وحتى القضاة، قبل المواطنين، دفعَ بالبعض منهم الى التحرّك في إطارٍ منَظّم لمواكبة الدول المتقدمة التي تُقرّ للقضاة بحق التجمّع تحت مسمّى «نادٍ للقضاة» أسوة بمبادرات قضاة القرن الماضي كنسيب طربيه ويوسف جبران وعبد الباسط غندور، حين أسّسوا لجمعية سمّوها «حلقة الدراسات القانونية» هدفت الى قضاء مستقلّ ولاطائفي، بيد أنّ محاضرة القاضي طربيه التي انتقد فيها الآلية المتّبعة لإجراء التشكيلات القضائية تسبّبت بإحالته الى التفتيش القضائي وبطرد الجمعية من الغرفتين اللتين كانت وزارة العدل مَنحتهما لها في مبناها، فتوقف عمل الجمعية.
 

بَقي حلمُ التجمّع في ذهن القضاة، وعاد ليحضر بقوة مع بداية الحراك القضائي الكبير منذ سنتين، حين ظهرت الى العلن نيّة استهداف صندوق تعاضدهم، إذ انبرى عندها عدد قليل من القضاة الشباب لتحفيز زملائهم على الاعتكاف عن العمل، وذلك في ظلّ استقالة تامة من مجلس القضاء الأعلى من مهامه في الدفاع عن مصالحهم، ما أرغم الأخير على تبنّي الاعتكاف، فتحسّست الكتل النيابية خطورة الموقف وعدلت بالنتيجة عن استهداف الصندوق.

انتهت أزمة الاعتكاف ولكن تعزّزت فكرة إنشاءِ نادٍ للقضاة يشبه في مهامه «حلقة الدراسات القانونية». لكن مجموعة القضاة الشباب هذه لم تتخلّ عن حلم الوصول الى سلطة قضائية مستقلة، على الرغم من الحفاظ على صندوق التعاضد.

المجموعة هذه المؤلفة من قضاة عدليين وإداريين وماليين، تقدّمت، بمباركة من القاضي الراحلة ماري دنيز المعوشي، بالنظام التأسيسي الى وزارة الداخلية والبلديات للحصول على العلم والخبر. الوزير المشنوق لم يمنح العلم والخبر وبقي الملف عالقاً الى أن توفيت القاضي المعوشي، ما أشعر القضاة بضرورة التحرّك، فانتخبوا هيئةً إدارية للنادي وشارك وفد من هذه الهيئة في تأسيس الاتحاد العربي للقضاة في تونس.

هذه الخطوة فتحت أبواب جهنم بوجه هذه المجموعة التي يسمّيها الكثير من القضاة «الانتحاريون» خصوصاً أنّ معظمهم من القضاة العدليين الخاضعين لسلطة مجلس القضاء الأعلى، وهم يدركون تماماً معارضته الشرِسة لإنشاء النادي.

وبالفعل، سارع المجلس الى إرسال كتب سرّية الى جميع القضاة يحذّرهم من مغبة الانضمام الى النادي. بيد أنّ صمود هؤلاء القضاة وثباتهم على موقفهم استقطب المزيد من زملائهم حتى فاق عددُهم حتى الآن المئة، مع العلم أنّ رئيسَي مجلس شورى الدولة وديوان المحاسبة كانا من المؤيّدين لإنشاء النادي.

في الموازاة عصفت بمواقع التواصل الاجتماعي وخصوصاً في الشمال أخبار وتعليقات تناولت إشكالاً حصل منذ أسابيع أثناء جلسة محاكمة، بين القاضي المنفرد المدني في طرابلس سمر البحيري والمحامي نبيل الفاضل رعد، فقدّمت القاضية شكوى جزائية بحق المحامي. كادت هذه الحادثة أن تكون كغيرها من الحوادث لو لم يقع حظ القاضية العاثر على تقاطع موضوعي وظرفي لمصالح أدّى الى اتّخاذ نقابة المحامين في طرابلس، في فترة الانتخابات النقابية، قراراً بمقاطعة جلسات القاضية التي وجدت نفسها مستفرَدة دون مؤازرة سوى من وزير العدل، في ظلّ غياب تام لمجلس القضاء الأعلى.

تختلف رواية القاضي بحيري عن تلك التي عرضها المحامي فادي محسن - الذي كان حاضراً الجلسة. فالقاضي البحيري تقول إنّ المحامي رعد استشاط غيظاً حين ردّت له طلباً فراح يصرخ ويتفوّه بعبارات تنال من هيبة القضاء ونالت إحداها من رئيس الجمهورية، ما اضطرها الى الطلب منه الخروج من القاعة إلّا أنّه رفض.

أما المحامي محسن فذكر أنّ القاضي رفضت باستهزاء طلب المحامي رعد الذي اعترض على القرار فطلبت منه الخروج من القاعة دون أن يكون تعرّض لأيٍّ كان بأيّ عبارة غير لائقة.

المستغرَب في هذا الإشكال أنّ حملة عنيفة شنّها عدد من محامي الشمال على القاضي، على خلفية منحها التعويض الذي طالبت به لجمعية الرفق بالحيوان، ما اعتبره هؤلاء إساءةً لهم، فقرّرت نقابة محامي الشمال مقاطعة جلساتها.

وفي حين تعرّض عدد كبير من محامي الشمال بالإهانات للقاضي البحيري على وسائل التواصل الاجتماعي، اكتفى مجلس القضاء الأعلى بإصدار بيان إنشائي بعد أربعة أيام على الإشكال.

يرجع مراقبون تراخي مجلس القضاء الى دوافع شخصية لدى مرجع قضائي كبير يجد في استفحال هكذا مشكلات فرصةً لضرب نادي القضاة خاصة وأنّ القاضي «البحيري» هي من الأعضاء المؤسسين له.

كما يضع المراقبون هذا التراخي في سياق ما سبق وحصل مع القاضي حمزة شرف الدين – وهو عضو هيئة إدارية في نادي قضاة لبنان – الذي تمّ التشهيرُ به لمساهمته في ترميم قصر العدل في بعلبك، إذ وقف حينها المجلس متفرّجاً، في حين أنّ هذا المجلس عينه أصدر بياناً مفصّلاً في أقل من 24 ساعة عند عرض النائب جورج عدوان لجملة مخالفات نسبها لهذا المرجع القضائي الكبير!    

في السياق يرى المراقبون أنّ استقبال الرئيس عون لعدد من أعضاء الهيئة الإدارية لنادي القضاة منذ مدة، أحرج هذا المرجع القضائي الكبير الذي وجد نفسه مضطراً للتصعيد، لكبح جماح هذه المجموعة من القضاة التي أصبحت تُحرجه.

في الموازاة تميّز الخطاب الأخير لنقيب المحامين بالنبرة العالية، خصوصاً بشأن «النوادي» و»التجمّعات»، في سياق دفاعه عن مجلس القضاء الأعلى.

القضاة المنضمّون للنادي لحظوا أنّ الخطاب يصبّ في مصلحة مجلس القضاء الأعلى والنقابة التي وجدت في نجاح النادي خطراً يتجسّد في تأثيره الإيجابي والمحفّز «لنادي الحقوقيين» وهو تجمّع كبير من المحامين يضغط على النقابة في مسألة الفساد الذي شاب التأمين الصحي للمحامين، وأدرجوه ضمن عنوان «إلتقاء المصالح».

في المقابل ينفي نقيب المحامين اندريه شدياق في حديث لـ«الجمهورية» تصويبه على «نادي القضاة أو غيره» في خطابه الاخير لافتاً الى أنه أوضح في خطابه أنّ تعاطي النقابة يبقى مع مجلس القضاء الأعلى بصفته الممثلَ الشرعي الوحيد للسلطة القضائية، ولم يذهب أبعد من ذلك على الرغم من علمه أنّ نادي القضاة الذي نشأ والذي يتكوّن من مجموعة من القضاة، ليس لديه علم وخبر، مضيفاً أنّ هناك مراسلات بين مجلس القضاء و وزيرَي العدل والداخلية تفيد بأن ليس هناك علم وخبر بإنشاء هذا النادي.

وعن «قضاة النادي» أوضح النقيب أنّها مجموعة قضاة أنشأت تجمّعاً، مفضِلاً، كنقيب للمحامين، عدم زجّ نفسه بينهم أو في العائلة القضائية الواحدة أو في الجسم القضائي الواحد.

أما بالنسبة لرأيه الشخصي بالنادي فعلّق بالقول: «في التشريع الفرنسي من الممكن إقامة نقابات وتجمّعات قضاة، القانون يسمح، وهي تبلغ وفق معلوماتي حتى اليوم ثلاثة. أما في لبنان فهناك حظر لهذا الأمر. كاشفاً لـ«الجمهورية» عن أنّ لديه انطباعاً بأنّ «نادي القضاة» قائم على زغل في الجسم القضائي، لا سيما بين النادي ومجلس القضاء الأعلى. مضيفاً «أقلّه هذا ما لديّ من معلومات وليس لديّ من معلومات أكثر في هذا السياق».

السؤال هل سيصمد هؤلاء القضاة؟ أم سيلقى «نادي القضاة» مصيرَ «حلقة الدراسات القضائية»؟ أسئلةٌ تجيب عنها الأيام والأسابيع المقبلة.