قبل عامين تقريباً، في عهد الرئيس فرانسوا هولاند، وفي ذروة احتجاجات اجتماعية سياسية في ساحة “الريبوبليك” في باريس، كنت أحضر على التلفزيون الفرنسي حيث كنتُ أقيم في باريس القناةَ المتخصصة بنقل اجتماعات الجمعية الوطنية (مجلس النواب). وفي تلك الجلسة أثار أحد النواب أمام رئيس الوزراء والوزراء الحاضرين مسألةً فاجَأَتني جدا كمراقب خارجي هي احتجاج النائب على ما اعتبره الراتب الضخم الذي يحصل عليه كارلوس غصن كرئيس لشركة رينو، وأنه يجب إعادة النظر فيه لأنه أحد الرواتب التي تخدش التوازن الاجتماعي. طبعا كان النائب يتحدث عن راتب شرعي معلن.
يومها انتبهتُ أن ظاهرة كارلوس غصن دخلت إلى مستوى عال من الرمزية الأبعد من اقتصادية في الحياة العامة الفرنسية. لكن من كان باستطاعته أن يتوقّع هذه النهاية اليابانية لغصن؟ لا أحد. هل كان على كارلوس غصن أن يستعد إرادياً لما بعد القمة؟ وهل أخطأ في عدم تحضيره للتغيير؟ باختصار هل كان عليه الانسحاب في ذروة مجده ولم يفعل بسبب عدم انتباهه إلى إشارات بدءِ تَعَبِ موقعه؟
كان كارلوس غصن في بيروت قبل فترة قصيرة جدا، وفي سهرة ضيقة مع مجموعة محدودة جدا من معارفه، حسبما أخبرني مصدر موثوق، سُئل عن مدى فعالية العقوبات الأميركية الجديدة على إيران فقام بشرح تفصيلي وعملي عن أن الأميركيين هذه المرة شديدو التشدّد في العقوبات. وأخبر المجموعة الصغيرة عن الإجراءات التي تفرضها المصارف والمؤسسات الأميركية على الشركات الأوروبية إذا حاولت بناء علاقة مع إيران خارج سياق هذه العقوبات ومنها الشركة التي يرأسها ولها حجم مبيعات ضخم في إيران بل هي الحجم الأول في سوق السيارات داخل إيران.
وقال الذين سمعوه أنه أخبرهم أن الأميركيين رفضوا استمرار الشركات، ومنهم شركته، في بيع أو إنتاج سيارات كاملة للسوق الإيراني وأن ما يقبلون به هو بيعها فقط لإيران قطع الغيار شرط أن لا تكون الشركة البائعة على أي علاقة بأي مصرف أميركي لأنه في هذه الحالة، بوجود العلاقة، ستُتّخَذ إجراءاتٌ ضدها.
أروي هذه الواقعة الأكيدة فقط كمعلومات تهم القراء لكن ليست متصلة بأي شكل بقضية توقيفه، حتى لا تذهب المخيلة السياسية، خصوصا اللبنانية، إلى تحليلات وهمية كما حصل بتسرّع مع بداية توقيفه.
لا يجب دخول ذوي السمعة الفاسدة على خط الدفاع عن كارلوس غصن، أينما كان، لأن الملايين مُعجبة بل مبهورة بتجربة هذا الرمز الكبير بل الأسطوري من رموز العولمة والذي “يصادف” أن له أصدقاء ومعارف وأقارب في بلده الأصلي لبنان، لأنه هو مهتم بلبنان، وببعض الاستثمارات المتنوعة فيه.
لذلك سُعدْتُ أن أقرأ مقال هيئة تحرير جريدة “الوول ستريت جورنال” قبل ثلاثة أيام (26-11-2018) تحت عنوان يعلن بوضوح اتجاه المقال: “محكمة تفتيش غصن” استعارةً للتعبير السلبي الشهير في التاريخ الكنسي الكاثوليكي الذي كان يُخضِع المؤمنين لشبهة الانشقاق التي تعرِّضهم إلى تحقيق عدائي تعذيبي شخصي معهم. تعبير لا يعادله اليوم في الشهرة الاضطهادية سوى محاكمات ستالين في العهد السوفياتي.
سُعِدتُ كالكثيرين في فرنسا ولبنان والبرازيل (جنسياته الثلاث) و اليابان كما في كل عواصم العالم. ماذا أيضاً عن ما يمثِّله في بيئات الخبراء والتكنوقراط والرأسماليين الذين شقّ بينهم كارلوس غصن طريقَه إلى الذروة المتميزة العالمية بما جعله رمزا ناجحا في الاقتصاد العالمي وأهم إسم في صناعة السيارات.
هو الذي احتل غلاف مجلة “تايم” مرةً وكان دائما على الصفحات والأسطر البارزة للإعلام المكتوب والمرئي والمسموع الكوني لأن “نيسان”، الشركة التي أنقذها طويلا وجعل نجاحها الابداعي والتسويق إحدى حقائق العقدين الأولين الكبيرة لاقتصاديات القرن الحادي والعشرين، بقيت بين الأُوَل عالميا وأحيانا تُنافس على المرتبتين الأولى والثانية. أما الشركة الفرنسية “رينو” التي انطلق منها لكي يقيم حلفاً بين الشركتين معا منذ عشرين عاما، وكلاهما من الرموز الكبرى للاقتصاد الوطني في بلدها وخصوصا رينو التي قادت عبر كارلوس غصن هذا التحالف (والذي انضمت إليه لاحقا “ميتسوبيشي”). فقد جعلها، أي جعل فرنسا، في قيادة تحالف مع نيسان، أي مع اليابان، بهذا المعنى فرنسا تقود اليابان في حقل صناعي رئيسي رغم أن الاقتصاد الياباني عموماً، المتراجع أمام الصين عن الرتبة الثانية بعد أميركا، بقي متقدما على ألمانيا ومتنافسا معها بينما الاقتصاد الفرنسي ليس بين المراتب الأربعة الأولى.
هذه القيادية الفرنسية على اليابان في حقل كبير من حقول صناعة السيارات، ردّد عدد من المحللين الأوروبيين الجادين أنها بدت مزعجة ضمنا للعقلية الوطنية اليابانية التي عادت سياسيا لتكون حاضرة مع رئيس الوزراء الياباني الحالي شينزو آبي.
لكن بالمقابل، وقد تابعتُ بشغف الكثير مما كُتب بعد توقيف غصن الصاعق (مع مساعده الرئيسي غريغ كيلي)، هناك محللون جادون ومنهم فرنسيون يقولون أن مركزة القرار التقليدية في تحالف الشركتين بيد كارلوس غصن دفع وزيرَ الاقتصاد الفرنسي، وكان يومها إيمانويل ماكرون، إلى السعي لتعزيز فعالية وقدرة الأسهم التي تملكها الدولة الفرنسية في صنع قرار رينو. وهذا يضيف تعقيدا جديا آخر على المسألة، سواء صح وجود مؤامرة من داخل نيسان أو من الدولة اليابانية أو لم يصح بمعنى ارتكاب كارلوس غصن فعلا لأخطاء فادحة، نتيجة ضعف شخصي ما أمام المال، أو نتيجة سلطة مديدة هي بذاتها تصبح مدعاةً للاخطاء الناتجة عن غرور ما… صح ذلك أم لم يصح، وقد أثارت ذلك بصيغة أسئلة صحفُ “ليبراسيون” و”الفيغارو” و”اللوموند” الفرنسية الكبرى، فإن كل ذلك يدل على ضخامة الموقع والأهداف الدولتية والحكومية والاقتصادية والصناعية التي كان كارلوس غصن يقف أو يجلس وسْطها وعليها. تكفي متابعة بعض الصحافة اليابانية الكبرى ومنها “أساهي شمبون” و”يوميوري شيمبون” اللتان توزعان بالملايين نسخها الورقية، لكي نتأكد من المكانة الكبيرة لغصن و خطورة الموضوع والمستوى الجاد للتغطية. “جابان تايمز” نقلت تصريحات لمحامي غصن، المدعي العام السابق، يصف فيها الاتهامات ضد غصن بأنها غير واضحة وغير ثابتة. لا جدال في أن تغطية الصحافة اليابانية الكبيرة رصينة.
سُعِدْتُ إذن بدفاع “وول سْتريت” كصحيفة كبرى وذات مصداقية في العالم خصوصا في الشأن الاقتصادي الذي تحمل هذه الصحيفةُ اسمَ أهمِّ سوق مالي فيه عن كارلوس غصن، رغم أنه لم يكن الدفاع الأول قياسا بما كتب البعض الجاد في فرنسا وبريطانيا حول إمكان حصول “انقلاب” ضده وتعرضه للخيانة من داخل نيسان بل حتى من داخل فرنسا. فدفاع “الوول ستريت” دفاع عقل اقتصادي سياسي مالي رفيع المستوى، لا ينفي بين ثناياه احتمال الخطأ ولكنه يؤكد الاستدراج، أي نية إسقاط غصن، في ما يسمّيه المقال الذي كتبته الصحيفة باعتباره يمثل رأيها بالكامل وليس رأي أحد كتّابها، “الكمين الياباني”.
للتذكير فإن الملف كما يطرحه النائب العام الياباني يتعلق أساسا بـ”إخفاء” التصريح عن 44 مليون دولار هم نصف مدخوله على مدى مجموعة سنوات، مما أنقص ضريبة الدخل على مستحقاته. ومن البداية، بداية التوقيف، كان سؤال التعجّب من كيف يمكن لرجل ذي موقع تحت الأضواء العالية في كل لحظة أن يفكّر بإخفاء بعض مداخيله ضمن آليات يُفترَض أنها مكشوفة جدا، مثلما هو التعجب الذي يثيره إمكان ارتكابه فعلا لخطأ من هذا النوع!
قضية غصن، بالمآل المؤسف الذي آلت إليه، مذهلة الأبعاد.
فيها دراما سقوط الأسطورة،
فيها دراما سقوط رجل ناجح جدا وأصبح من مشاهير العالم المؤثرين،
وفيها النجاح الاغترابي المتعدد للبناني (فعلي) وبرازيلي (فعلي) حمل نجاحا فرنسيا كخريج الأكاديميا الفرنسية وصناعيا وطنيا لدولة عظمى على كتفيه.
فهو أحد رموز العولمة التي صعد بين قممها.
في الوقت نفسه هو الشخص ومآله المتواضع مهما حلّق، هذا البعد الإنساني للقوة المؤقتة والضعف البشري العميق، شيء يشبه قصص سقوط الملوك أو كبوتهم.
هل في فرنسيّتِه، ثمة لعنة نابوليونية تجمع المجد الهائل الكبير والسقوط المريع معا.
من حق لبنان، الذي لم يغب عن اهتمامات كارلوس غصن كمستثمر في النبيذ وفي القطاع المصرفي (عضوية مجلس إدارة بنك سرادار) وفي المشاركة الرمزية في هيئة خريجين عليا للتخطيط الاستراتيجي للجامعة اليسوعية، وحتى في ملكية بعض العقارات، من حقه أن يفتخر به. إلا أنه في لحظة كهذه فإن السمعة اللبنانية المقيمة في جانبها السيئ هي عبءٌ عليه وليس هو عبئاً عليها لأنه ضخّ لبنان الجيد بما يكفي حتى الآن من أمجاد النجاح الاغترابي غير العادي. لذا فإن الصورة الحالية للبنان المقيم لا تخدمه. بل ربما تسيء إليه نتيجة بعض صورتنا المتدهورة. فعلينا أن لا نحرقه بتضامننا الفارغ، وإنما بتضامن رصين رسمي وغير رسمي، لا أن نثير الشكوك الناتجة عن الجزء السيئ من سمعتنا.
مما يزيد الصعوبة في اللحظة “الكارلوس الغصنوية” أن اليابان وبعض دول جنوب شرق آسيا الديموقراطية والعملاقة اقتصاديا ككوريا الجنوبية ونسبيا ماليزيا وتايلاند المتقدمتَيْنن، وحتى الفيليبين الضعيفة تنمويا بل المتخلفة… هذه الدول متعوِّدة على مساءلة أكبر حكامها. رؤساء دول ورؤساء حكومات (ما عدا الامبراطور) دخلوا السجون بلا شفقة تحت حكم القانون. ولهذا ففي اليابان الإجراءات القانونية ذات سمعة صارمة حتى قياسا بفرنسا.
العالم الغربي، وفي قلبه اليابان الشرقية، لا يتهاون في موضوع التهرب الضريبي. لأن توازن النظام السياسي والاجتماعي يقوم عليه في أي بلد ديموقراطي غربي. وهذا درس نوعي آخر في الموضوع الذي نتناوله وهو عينة، ظالما أو مظلوما، على حالات تحدث كل يوم.
نتمنى نهاية سعيدة لكارلوس غصن تليق بمكانته العالمية الاستثنائية وبما يمثله من حافز للشباب في أي مكان.