كالعادة نقرأ الأحداث في لبنان سطحياً ونربطها دائماً بخلفياتنا السياسية والدينية والمجتمعية، فنقولب الحدث على حجم قناعاتنا المبنية مسبقاً من دون توق لحقائق جديدة أو محاولة غوص لفهم وقائع جديدة.
 

تماماً كما حدث مع رجل الاعمال االلبناني كارلوس غصن، فتسارعت الآراء والاحكام والرجم بالحجارة حتى قبل أن يصدر الحكم الياباني والعدد الأكبر من المتسرّعين بإلقاء الاحكام ورجم الرجل، لم يطّلعوا حتى على تفاصيل الشركة وتاريخ عمل الرجل وأساس توقيف غصن، والصراعات الخفيّة الدائرة.

ولن اغوص في الشق التجاري والاقتصادي للموضوع، بل لفتني البعد الثقافي والحضاري لتوقيف غصن في اليابان، وهو مرتبط بقناعات ومفاهيم مجتمعية وثقافية لكل شعب.

يُعرّف الباحث فردريك معتوق في كتابه «سوسيولوجيا الحضارة الكنعانية – الفينيقية» ما يُسمى بالموروث العملي أو الهابيتوس أي الصفات التي تطبع حضارة في تأسيسها وتستمرّ لتطبع صفاتِ وقيَم المجتمع في يومنا الحالي.

وبالتالي ورثت مجتمعاتنا المشرقية صفة الانفتاح والاحتكاك الدائم بالخارج من الحضارة الكنعانية التي تميّزت بالتجارة والصناعة ونشر ثقافتها حول العالم، هذه التجارة المتنقلة بين كلّ البحار التي وصلت إليها سفنُهم المحمّلة بعشرات الأنواع من السلع.

فلم يحتكر الكنعانيون المعرفة ولم يخفوها بل تشاركوها مع العالم وحتى مهاراتهم وسلعهم الصناعية كانت تعطى هدايا ويتمّ نشرُها حول العالم. وفي المقلب الآخر وإذا حلّلنا الحضارة اليابانية، ففي أسسها ما يُسمى بال ushi – soto أي بالتفريق الواضح بين الـ«نحن» وبين «الآخر» وهذه الثقافة هي ما يجعل اليابانيين يتعاملون بحذر مع الخارج عن ثقافتهم أو الآخر، فهم يجدون صعوبة بالتعامل مع الغرباء، لا يزال uchi / soto يمثل الجزء الأكبر من تأسيس بيئة الأعمال اليابانية (Business Ethics).

وبالتالي هذا هو السبب أيضاً في أنّ الأجانب (سوتو) يجدون صعوبة بقبولهم في المجتمع الياباني حقاً، وأولئك الذين يرغبون بأن يصبحوا مواطنين يابانيين (أوشي) يواجهون العديد من العقبات.

ويقول الباحثون الاجتماعيون إنه حتى عندما يتعامل اليابانيون بلطف شديد معك فهذا لا يعني أنهم يودّون أن يكونوا اصدقاءك، بل إنها الرهبة من الآخر ومحاولة فهمه لا أكثر.

وهذا ما لاحظته خلال زيارتي الى اليابان، حين دخلنا الى أحد المطاعم عائلتي وأنا من دون حجز مسبق، أعلمنا النادل بأن لا مكان متوفراً، ونحن في طريقنا الى الخروج ادخل مجموعة يابانية ولا يملكون حجزاً مسبقاً أيضاً إلّا أنه تمّ تفضيلُهم علينا لمجرد أنهم يابانيون.

وبالتالي هذا التناقض الثقافي هو أساسي فيما حصل مع كارلوس غصن في اليابان، فعلى الرغم من أنّ شخصية غصن تمّ الترحيب بها في اليابان بدايةً إلّا أنه كان هناك شعور دائم يزعج اليابانيين وهو وجود خارج عن مجتمعهم أو ما يُسمى بالـ GAIJIN أي الكلمة اليابانية للغريب، غريب وفي الوقت نفسه رئيس مجلس ادارة حازم ويدير الامور بيد من حديد. فمثلاً من التغييرات التي قام يها هو تغيير اللغة الرسمية للشركة من اليابانية إلى الإنكليزية.

ومن الملاحظ أنه لم يتم أخذ الإجراءات ذاتها لشركات اخرى في اليابان بعد فضائح مالية اخطر بكثير، فمثلاً، لم يتم تحميل المسؤولية لأيّ مديرين تنفيذيّين في شركة «تاكاتا» لملايين أكياس الهواء (airbags) المميتة التي صنعتها الشركة المفلسة الآن. كما أعادت شركة Toshiba Corp إصدار ست سنوات من الإيداعات الخاصة بالشركات و 152 مليار ين من الأرباح بسبب المخالفات المحاسبية. وقامت شركة Kobe Steel Ltd. ببيانات جودة مضلّلة عن منتجاتها تمّ بيعُها لأكثر من 600 عميل خلال ما يقرب من خمسة عقود.

واعترفت كل من نيسان، وميتسوبيشي موتورز كورب، وسوبارو كورب، وسوزوكي موتور كورب، ومازدا موتور كورب، وياماها موتور، بتزوير اختبارات الانبعاثات في اليابان. ومع ذلك، لم تحدث أيّ إجراءات مقارنة بما حدث لغصن وكيلي.

على صعيد آخر، من الصعب معرفة كيف يمكن أن تكون هناك حالة من أنّ اثنين من الأجانب أي غصن وكيلي قد تصرّفا بمفردهما من دون معرفة المدراء المحليين. كان «سايكاوا» مديراً تمثيلياً في نيسان منذ 2011، وهو دور حاسم في الشركات اليابانية التي تعتبر مثل رئيس تنفيذي (كان غصن وكيلي هما الآخران).

من الصعب تصديق أنّ سوء السلوك المزعوم كان يمكن أن يحدث بدون أن يكون سايكاوا ومجموعة أخرى من مسؤولي التدقيق والمحاسبة مدركين أو على اطّلاع على ما يحصل. و كيف يلقي مجلس الإدارة باللوم على رئيس مجلس الإدارة بسبب تضليل الشركة بشأن رواتبه؟ لماذا لا يتحمّل المديرون الآخرون أو المدقّقون المسؤولون عن الإيداعات غير الصحيحة؟

الأهم أنّ غصن دفع ثمناً باهظاً لتعطيل فكرة الاندماج بين شركة نيسان الاندماج وشركة «رينو» وهذا يعود كما ذكرنا الى الخوف الدائم من الانفتاح والغريب «OUTSIDER لا سيما وأنهم يعتبرون الاندماج مع رينو هو لغير مصلحة الشركة.

ممّا يظهر بالفعل أنّ ثقافة المجتمع تنعكس مباشرة في بيئة الأعمال وهذا ما يجب أن تعيد قراءته اليابان إذا أرادت أن تكون شريكاً حقيقياً في عالم التجارة والاقتصاد اليوم المنفتح والعابر للقارّات، وربما يجب أن تتعلم من التاريخ لتدرك أنّ العدائية الزائدة لأيِّ غريب لن تكسب اليابان بل ستكبّدها خسائر اقتصادية. وربما قد تحثّ الآخرين على التعامل معها بالمثل، وللتذكير أنّ السوق التصديري لليابان هو الأساس وليس سوقها المحلي.

وما يلفت نظري أننا في لبنان تخلّينا عن موروثنا العملي وتخلّينا عن السمات التي كانت تطبع مجتمعاتنا تاريخياً وهو الانفتاح التجاري والابتكار والصناعة ونشر المعرفة، الواقع قد يكون الكنعاني /الفينيقي هو مَن ابتدع فكرة العولمة، فعلى الرغم من قدرتنا الهائلة حالياً بالانفتاح على الخارج الى درجة تحكّمه بنا إلّا أننا خلقنا جوّاً اقتصادياً عدائياً للتجارة الدولية والانفتاح الاقتصادي عبر تقديس الاحتكار والعراقيل الاقتصادية المختلفة، بحيث أصبحنا أعداء لأيِّ مستثمر خارجي. ربما حان الوقت لنعيد موروثنا العملي على السكة الصحيحة.