اشتعلت أجمل جادة في العالم "بالأصفر". المتظاهرون من "السترات الصفر" تظاهروا والمختصون بالتكسير هم الذين أشعلوا النار. لم يتمكّن حزام الشرطة ولا "مطر" القنابل المسيلة للدموع ولا ١٠٣آلاف ليتر من الماء البارد في تفريق المتظاهرين ولا في إطفاء الغضب المنفجر على بعد ألف متر أو أكثر من الإليزيه. كان الهدف أن يصل صوتهم بقوة الى الرئيس إيمانويل ماكرون حتى يُدخل التعديلات على سياسته خصوصاً من الرسوم والضرائب وأهمها على المحروقات التي طالت كل فرنسي. اليوم مساء سيخاطب الرئيس المتظاهرين، فهل سيثبت انه سمعهم؟، هذا هو السؤال...

"السترات الصفر" ولدوا من الغضب. يقول البعض كأننا نعيش مرة اخرى أيار ١٩٦٨ رغم ان الفرق كبير في الزمن وفي الشكل والمطالب وفي ساكن الاليزيه الذي كان الجنرال ديغول. في الواقع هذه الحركة لا يعرف احد الى اين ستصل لانها لا تملك صوتاً واحداً ولا مطالب مشتركة. يقول الكثيرون من الذين يتظاهرون "سنستمر حتى النهاية" السؤال الطبيعي "اي نهاية"؟ والجواب "لا جواب". البعض يقول حتى يتراجع الرئيس عن الرسوم المفروضة على المحروقات. ولكن وكما يرد البعض "هذا ليس سوى نقطة الماء التي فاض بها الكأس"، والجواب الاكثر انتشاراً "نريد ان نعيش بكرامتنا حتى نهاية الشهر"، اما الجواب الاهم فهو: "الجمهورية الخامسة في نهاية عمرها، فلماذا لا يقع التغيير ويقوم مثلاً نظام الاستفتاءات كما في سويسرا؟".

الاقتراحات كثيرة والأفكار دائما في فرنسا غنية، فهي كما يقول الفرنسيون "هذا ما نملكه لأننا لا نملك النفط". اليوم سيتكلم الرئيس ماكرون، عَلى ضوء تعهداته واقتراحاته قبل توجهه الى الأرجنتين للمشاركة في قمة العشرين، سيتبين مسار "السترات الصفراء"، هل ستتبلور منهم قيادة تترجم المطالِب والطرق التي سيسيرون بها أم أنهم لن يكونوا اكثر من صوت احتجاجي في الفراغ، علماً ان فرنسا ومعها العالم بحاجة إلى حركات جديدة اكثر وضوحاً تنجح في الإجابة عن أسئلة كثيرة تتجاوز بكثير المطالِب المحدودة...

على الضفة الأخرى من المانش يعيش البريطانيون أزمة مختلفة في كل شيء. خرجوا من أوروبا دون تقدير عميق وحقيقي وواقعي للنتائج. الآن ادركوا ان ثمن الانفصال غالٍ جداً في الشروط وفي وسائل تنفيذه وفي ارتداداته عليهم وعلى الآخرين من شركائهم السابقين من الأوروبيين، كل هذا في وقت كان الزمن يعود الى الوراء اي الى الثلاثينيات وظهور هتلر وموسوليني فيما بعد الحرب العالمية الثانية... حتى نهاية العام ٢٠٢٠ كي يعرف البريطانيون ماذا جنوا من الانفصال وما اذا كانوا سيتمكنون او يعملون للعودة علماً ان الكلفة ستكون اكبر بكثير وسيخضعون لشروط رفضوا الكثير منها سابقا...

في لبنان ظاهر أزمة تشكيل الحكومة غير باطنها كما يبدو... الظاهر التنازع على المقاعد وفي الباطن ان البعض يعتقد ان النظام سواء كان نظام الطائف او شبيهه، لم يعد يناسب الواقع المأزوم ولا الطموحات المعلنة اوالمستترة... دون الدخول في التسميات الدقيقة، رافضو الطائف من القوى المسيحية يعتقدون انهم قادرون على استعادة نفوذهم وبناء لبنان على مقاسهم. في الواقع اذا أُسقط الطائف فلن يخرج احد سالماً ليس لانه نظام كامل ومتكامل وانما لان البديل سيكون انقلاباً على الطموحات وتجسيداً لتغير موازين القوى الناتج عن تغير التركيبة السكانية من جهة، وتغير موازين القوى الخارجية. لا يمكن اليوم ولا غداً في المستقبل المنظور شطب الحضور الايراني الملتزم بالشيعية السياسية مجسدة بـ "حزب الله" ، تماماً كما كانت فرنسا "الام الحنون" للموارنة مع فارق مهم وهو وجود تفوق في السلاح وبالتالي في فائض القوة...

سقوط الطائف سواء تحت ضغط الأزمة او بالتوجه نحو صياغة دستور جديد باسم التغيير، سينتج عنه نظام المثالثة اي المساواة في تقاسم المواقع على الثلاثة: الشيعة والسنة والمسيحيين، بدلاً من المناصفة بين المسلمين والمسيحيين. باختصار شديد الموارنة اليوم وبظل الطائف ورغم كل المآخذ على تنفيذه يعطي للموارنة فقط وليس لكل المسيحيين المواقع التالية: رئيس الجمهورية . قائد الجيش .قائد المخابرات . حاكم المصرف المركزي. رئيس المجلس الأعلى للقضاء . رئيس مجلس الشورى. ورئيس مجلس التفتيش المركزي ... هذا دون السهو أو الخطأ. فماذا سيبقى في ظل المثالثة للموارنة اولاً من كل هذه المواقع ؟!

التغيير ضروري ، لكن لبنان لا يتحمّل ترف الانخراط في مجهول التجارب وتفعيل الخصومات خصوصاً وأنه يعيش على حافة الانهيار الاقتصادي .