كل حاكم استبدادي غير ديمقراطي علماني فيكم ما هو إلا صنم ولو كان ساجداً داخل البيت الحرام ، أو راكعاً تحت قبة كنيسة بيت لحم ، أو مُهطعاً رأسه عند حائط المبكى ...
 
في محراب الطبيعة وعلى أطراف قريتي بعيداً عن مرأى الناس ومسمعهم نصبت وجهي  ومددت يدي  نحو السماء معاتباً وراضياً ، مُتذمراً وموافقاً في آن معاً وأنا أخاطب إله الوجود لا لأنه كائن في السماء بل لأنها رمز كبريائه ونفوذه المطلق .
 
في هذه اللحظات تمنيت لو أنه لم يخلقني وكنت عَدَماً ونسياً منسياً لم تلدني أمي تماماً كما تمنَّت القديسة مريم والدة المسيح (ع) والقديس علي بن الحسين (ع) ، تمنيت ذلك مع شك في ما تعلمته : " من أن الوجود خير من العدم " إلا أن شكي كان مصحوباً بيقين لا شك فيه بيوم " العدل"  بعد الموت وُعِد فيه المظلوم من أي دين كان أو مذهب أو فلسفة بأنهار من لبن ، وعسل ، وخمرة لذة للشاربين " غير مسكرة " وحور عين كأنهن الياقوت والمرجان ،  فسألته بخفقات قلبي ،  ودموع عينيَّ بعيداً  عن التَّكَلُّف في صناعة الكلمة والكلام والكَلِم ، ومُتَحرراً من كسرة المجرور ، وضمة المرفوع ،  وفتحة المنصوب ،  وقد اكتشفت مؤخراً أن الإمام علياً (ع) قال :
 
" خير الدعاء ما لا يَتَكَلَّف الداعي به بين يدي ربه " .
ولكثرة ما استنزفتنا قواعد اللغة وسائر علوم الدين والدنيا نسيت بديهة تُضاف إلى بديهيات كثيرة نسيناها وعلى الأرجح تناسيناها وهي أن الخالق سبحانه  يدرك معاني اللهجات ،  ودلالات الإشارات ، والإيماءات المتغايرات ، في مخلوقاته الناطقة والصامتة كافة ، تماماً كما يدرك معاني العبارات الفصيحات ذات الدلالات البليغات .
فسألته راضياً ومُعاتِباً " عتب عاشق محب " في آن معاً عن السر المُضْمَر في إمهاله حُكامنا اللصوص الكبار  ، وأحزابهــم الثورية الجهادية والنضالية وشعرائهم وكُتَّابهم وَوُعاظـهم الذين جعلوا بفنون ألسنتهم وأقلامهم قُبْحَ هؤلاء اللصوص حُسْناً جميلاً وظلمهم عدلاً عظيماً وشرورهم خيرات وبركات وتضحيات وأعمال صالحات  تارة بِحُجَّة أن المرحلــة حساسة أو الحالة حالة إستثنائية خطيرة أكثر من أي وقـت مضىأو بعنوان الضرورات تُبيح المحظورات !
 
فسألته معاتباً وراضياً في آن معاً عن سرّه المُضْمَر في إمهاله " لا إهماله "  الطويل لأولياء أمورنا السياسية  " والدينية "  الذين استجدوا منا زهرة عمرنا ،  وتَسَوَّلوا ربيع حياتنا للتضحية بهما  في سبيل صناعة  العدالة ودولة العدالة من أجل الجميع فوهبناهما لهم بكل رغبة ومن دون أدنى تردد ،  ولما أثمرت لهم في بنوك السياسة مالاً ونفوذاً وجاهاً سلطاناً  لم يتورعوا كسابقيهم من إلزامنا بعبادتهم  بوصفهم شركاء لله بالأمر والنهي  وبأنهم سفراؤه بالأرض  ففرضوا علينا أن نجعلهم ونؤمن بهم شخصيات وقيادات ومخلوقات فوق المُحاسبة والمُسَاءلة والمراقبة والمعارضة ليسألوننا عما نفعل ،  ونقول ،  ونكتب ، " ونهمس " وهم لا يُسْأَلون عن شيء !
 
والويل لنا والثبور وعظائم الأمور إنْ لم نعتقد بأن أصلاب الرجال عقرت وأرحام النساء عقمت من إنجاب أمثالهم وأمثال ذراريهم ،  وليداً بعد وليد ، وحفيداً بعد حفيد !وإن الواحد منا عندهم لا يُصْبِح عزيزاً إلا إذا جاد بألحان الموسيقى وأوتار الغناء وعيون القصائد للإشادة بهم ، والإطراء لهم ، والتمجيد بعظمتهم ، وازدان صالونه وحجرة نومه وزجاج سيارته الأمامي والخلفي بصورهم الفوتوغرافية أو الزيتية ، ودعا الله لهم في مبتدأ كل حفل واحتفال وفي ختامه ،  وعقيب كل صلاة وطواف وإفطار وعقيب كل منسك !
 
وأما الذليل منا عندهم فهو كل من استعمل فعل الماضي أو المضارع مُنْطوياً على تساؤل ما ، ومتعلقا بجانب ما ، من سيرتهم ومواقفهم إذا كان مسبوقاً بالكلمات التالية : عسى . .  أو لعل . . أو لماذا . . أو ربما . .  الواحد من تلك القيادات و الشخصيات الدينية أو السياسية ربما  يكون مخطئاً  أو مشتبهاً أو قاصراً فكرياً  بهذه المسألة أو تلك .
فسألته  راضياً ومعاتباً " عتب عاشق ومحب " عن اللغز المضمر الخفي ، وعن السر المُسْتَتِر الكامن في نجاتهم من زلازله وفيضاناته وإعصاراته وصواعقه ومجاعاته والتي تصيب سائر عباده في أطراف أرضه ؟
 
وبعد الدعاء والمناجاة والسؤال والتساؤل كأني قرأت إجابة بليغة فصيحة مخطوطة بغيوم الفضاء في أفق السماء بالكلام التالي : أيها المخلوق إن الأرض والكون خاضعان لقوانين لا يُعَطِّلُها دعاؤك ،  ولا تُبَدِّلها مناجاتك ، ولا تُغَيِّرها مظلوميتك .
 
 
إن العدالة التي تطمح لها أنت والمجتمعات الانسانية هي خاضعة للقانون التالي :
 
إن صناعة العدالة في السماء بعد الموت وظيفتي لا وظيفتكم ، وإن صناعة العدالة في الأرض قبل الموت هي وظيفتكم لا وظيفتي ، وإن كل حاكم استبدادي غير ديمقراطي علماني  فيكم فما هو إلا صنم ولو كان ساجداً داخل بيتي الحرام ،  أو راكعاً تحت قبة كنيسة بيت لحم ، أو مُهطعاً رأسه عند حائط المبكى ،  فإن لم تُكسِّروا أصنامكم " البشرية " فقهاء الأديان والزعماء السياسيين  بعقولكم لا بزنودكم ، وتُحطموها بأدمغتكم لا بفؤوسكم ، وتهدموها بعلـمكم لا ببنادقكم ،  وتفضحوها بأقلامكم لا بدمائكم ، فلن تستطعموا حلاوة العدل  بينكم ولن تستذوقوا ثمرة القسط فيكم ومستحيل وجود دولة عادلة بالأرض إن لم تكن ديمقراطية من جهة وعلمانية من جهة أخرى .
 
لو صُوِّر العقل لأظلمت معه الشمس ، ولو صُوِّر الجهل لأضاء معه الليل وإن الكافر العادل في الأرض مؤمن في السماء لعدله وإن المؤمن الظالم في الأرض كافر في السماء لظلمه .
 
الظالم ليس له دين ولا مذهب ولا طائفة ولا وطن ولا هوية ولا تُصَدقوه في معاداته  للإمبريالية والصهيونية .
 
 هذا ما  قرأته في غيوم السماء فاعذروني إن  كنت أهذي من خداعها أليست الحياة في وطني لبنان والشرق أمست هذياناً وخداعاً ؟!
 
الشيخ حسن سعيد مشيمش
لاجئ سياسي في فرنسا بمدينة Dijon