بات محسوماً أنّ أزمة تأليف الحكومة أفلتت من أيدي الجميع، وبات محسوماً انّ أياً من المعنيين بها ليس قادراً على الحل، وهو عاجز عن ابتداع ولو فكرة متواضعة يمكن من خلالها إعادة التقاط هذه الحكومة وتطعيمها بحل إنقاذي يعيد بَعث الحياة فيها. والأسوأ من هذا الإقرار بهذه الحقيقة، هو أنّ بعض صُنّاعها يتنصّلون منها، كمَن يقتل القتيل ويمشي في جنازته ويتقبّل التعازي به.
يُراد للناس أن تصدّق أنّ صنّاع الأزمة أبرياء منها، وأنّ شبحاً افتعلها، وأضاعَ من عمر البلد 6 أشهر من الفراغ والتعطيل حتى الآن، توالت خلالها 5 فصول تعطيلية:
 
الفصل الأول، الحرب السياسية التي واجهت مسعى «التيار الوطني الحر» ومن خلفه رئيس الجمهورية للحصول على الثلث المعطّل في الحكومة.
 
الفصل الثاني، حرب الأحجام بين «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية»، التي ما زال صداها مسموعاً حتى الآن، والاشتباك الذي رافقها حول الحصة الرئاسية التي كانت بدعة أيام ميشال سليمان، وصارت حقاً واجباً لرئيس الجمهورية في العهد الحالي.
 
وكذلك ما رافقها من خروج عن المألوف في الخطاب السياسي الذي احتدمَ بين الطرفين، الى حد أطاح أولاً «تفاهم معراب»، وأشعَر «القوات»، لا بل عَمّق هذا الشعور لديها بأنّها تتعرّض لحرب إلغاء سياسية.
 
بعد إصرار الرئاسة على انّ حقها التمثيلي هو 3 وزراء لا اكثر، وعاد ووافقَ، على مضض، على منحها 4 وزراء. ودفع ثانياً، برئيس الجمهورية نفسه الى الحديث عن جبهة ثلاثية لتفشيل العهد.
 
الفصل الثالث، حرب الالتباسات حول الصلاحيات، أي من هو المعني الاول بتأليف الحكومة، رئيس الجمهورية أم الرئيس المكلف؟ وما رافق هذه الحرب من كلام من فوق السطوح لم تشارك فيه المنصّات السياسية فقط، بل تجاوزتها الى المراجع الدينية والطائفية وسانَدها من الخلف رؤساء الحكومات السابقين.
 
الفصل الرابع، الاشتباك الذي صعد الى أعلى تعابير الشحن والتصعيد بين «الحزب التقدمي الاشتراكي» و«التيار الوطني الحر» ومن خلفه رئيس الجمهورية حول التمثيل الدرزي، ورفض رئيس الجمهورية إخضاع الحكومة لوليد جنبلاط وتسليمه سيف التحكّم الميثاقي بمصيرها ساعة يشاء وفق الكلام الرئاسي.
 
ثم فجأة، وبسِحر ساحر، نزل هذا التصعيد الى ذروة البرودة، وتراجَع وجنبلاط عن حصر التمثيل الدرزي في الحكومة بحزبه، ووافق على حلّ يمنحه وزيرين، وامّا الدرزي الثالث فيختاره رئيس الجمهورية ضمن الحصة الرئاسية، بما يمنح «التيار» مع حصة الرئيس، حصة الأسد في الحكومة، لتتجاوز بذلك «الثلث المعطّل» المطلوب، والذي يبدو الآن انّ التراجع عن هذا الثلث المعطّل مستحيل.
 
الفصل الخامس، عقدة التمثيل الأرمني، التي اشتعلت لفترة، ومن ثم توقفت بعد وعود تلقّاها حزب «الطاشناق» حول التمثيل الأرمني وتصحيح تمثيله. ويبدو انّ هذه العقدة لم تفك بعد، خصوصاً انّ حزب «الطاشناق» لم يعرف حتى الآن ما الذي أوجَب إخراج التمثيل الارمني من حكومة من تحت عباءته وإسنادها الى «القوات».
 
الفصل السادس، عقدة تمثيل «سنّة 8 آذار» التي لم تنته فصولها بعد، مع أنها أدخلت التأليف برمّته في نفق تعطيل كامل لا منفذ له. خصوصاً انّ أطراف الصراع على هذا التمثيل نزلوا بكل ثقلهم الى الميدان وفي مقدمتهم «حزب الله»، مقابل رفض الرئيس المكلّف الانصياع الى هذا المطلب والرضوخ للضغط.
 
مضى حوالى الشهر على اشتعال هذه العقدة، وما زالت المعركة مستمرة حولها: «حزب الله» يؤكد انّ «سنّة 8 آذار» سيتمثلون في نهاية المطاف، الرئيس المكلف يجزم بأنهم لن يدخلوا الى الجنة الحكومية، ويرفض حتى أن يستقبلهم، ويلوّح باللجوء الى خيارات وقرارات.
 
امّا رئيس الجمهورية فيقرّ بأنّ الازمة صارت كبيرة، ولم يجد أمامه سوى الاحتكام لسليمان الحكيم، لعلّه يجد «أم لبنان» لتضحّي، إلّا انه لم يعثر عليها بعد.
 
كل تلك الفصول ابتلعت 6 أشهر، والأخطر تَبدّى مع دخول الشهر السابع، عبر الحديث الجدي من قبل بعض المستويات السياسية، عن دخول العامل الخارجي - بمعزل عن جنسيته - على خط التأليف والضغط على بعض الاطراف لفَرملته. كل ذلك يضع حبل لبنان على جرّار الوقت، فالعدّاد الزمني يُمَرّك أياماً وأسابيع وأشهراً، ومع هذا المستجد بالتأكيد انه سيأكل المزيد من الأشهر، التي يفترض ان توجد أجوبة عن سيول الاسئلة التي تجتاح الداخل في هذه الفترة:
 
- ما السرّ الكامن خلف هذا العناد الصلب لدى جميع المعنيين بعقدة تمثيل «سنّة 8 آذار»؟
 
- ما هو الأفق الذي يمكن ان تأخذ لبنان إليه، أزمة تعطيل الحكومة؟
 
- كم ستنتظر هذه الازمة لكي تفرج عن العميق من مكنوناتها وأسرارها؟
 
- هل انّ هذه الازمة هي أزمة تمثيل «سنّة 8 آذار» ام انها في جوهرها أزمة نظام وكيان وتعبير عم حجم الانقسام الرؤيوي في البلد؟
 
- هل ثمة من يخشى ان تتطوّر هذه الازمة الى حد لا يعود ممكناً احتواؤه او الامساك به، ويؤدي الى التأسيس لمعادلات وطنية جديدة، تضع اتفاق الطائف على الطاولة، وتدفع في اتجاه تعديله او اكثر من ذلك وصولاً الى تغييره؟
 
- هل ستستمر هذه الازمة في انتظار ما سيؤول اليه سباق الكبار في المنطقة؟ واستطراداً، هل انها تكشف صراحة عن انّ لبنان أدخل مجدداً في خضم صراع إقليمي لم تتّضِح معالمه او تفاصيله بعد؟
 
يُجمع المعنيون بملف التأليف انّ الحكومة ستتشكّل في نهاية المطاف، وبالتأكيد لن تكون حكومة من طرف واحد، ولا من لون واحد، فلا أحد يمكنه الذهاب الى ذلك مهما اختلفت الظروف وتبدلت الخرائط السياسية في الاقليم او في العالم، كما لن تكون حكومة خارقة او مختلفة عن الحكومات التي سبقت او الحكومة الجاري تأليفها حالياً، أي حكومة وحدة وطنية بذات التوزيعة السياسية.
 
من هنا، وبعد كل ما جرى من تأخير وتعطيل، وبعد انكشاف الوجوه وظهور ما في الصدور من مشاعر وأحاسيس تكنّها الاطراف السياسية لبعضها البعض، أيّ حلّ يمكن الوصول إليه؟ وأيّ انسجام سيكون عليه في الحكومة التي سيتم تشكيلها ولَو بعد حين؟
 
وقبل ذلك ماذا عن معايير التأليف وقواعده التي اعتمدت حيال الحكومة الحالية، ويلتقي الجميع الآن على اعتبارها عشوائية ومُختلّة وغير متوازنة وغير عادلة، فهل ستكون هي نفسها عند الاتفاق لاحقاً على إطلاق الحكومة أم انها ستخضع للنسف والتعديل