القاعدة في لبنان أقلّه منذ العام 2005 أنّ الخلافات السياسية تعطِّل المشاريع الحيوية التي لها علاقة بالوضع الاقتصادي والإنمائي والاجتماعي، الأمر الذي يستدعي التفكيرَ جدّياً في طريقة فصل تأثيرات هذه الخلافات على الأوضاع الاقتصادية.
عند كل استحقاق رئاسي أو حكومي تتعطّل البلاد وتدخل في فراغ طويل يشُّل المؤسسات ويعلِّق الدستور وينعكس سلباً على الاقتصاد، فيما أيّ مراجعة لمسار الأحداث تُظهر أنّ التعطيل سببه الفراغ حيناً والانقسامات أحياناً، وفي الحالتين يدفع كل الشعب اللبناني الثمن من لقمة عيشه ويسجِّل لبنان إنحداراً في بنيته التحتية والاقتصادية.
 
وإذا كان الوضع القائم في لبنان في مراحل سابقة يتحمّل التأجيل، فإنه لم يعد كذلك اليوم لأنّ الوضع وصل إلى الخط الأحمر ولم يعد هناك أيُّ احتياطيٍّ يسمح بترحيل التفكير في العلاجات المطلوبة، خصوصاً أنّ الخلافات السياسية ستبقى على حالها، والفراغ سيبقى من ضمن الأوراق التي يتمّ استخدامُها، وحتى لو سلّمنا جدلاً بأنّ الأزمة الحكومية ستُحلّ غداً فإن أزمة الفراغ الرئاسي على الأبواب، وهذا من دون استبعاد الخلافات التي يمكن أن تنشأ وتؤدي إلى تعطيل الدولة وشلّها.
 
ومعلوم أنّ الدساتير وُضعت لخدمة المجتمع والناس، وعندما يتعلّق تنفيذُها بسبب الخلافات السياسية يجب التفكير في البدائل الممكنة، لأنّ من غير المسموح تحويل المجتمع والناس رهائن نتيجة هذه الخلافات، ولذلك الحلّ الوحيد هو بالاتّفاق على فصل كل ما هو سياسي عن كل ما هو اقتصادي، وهذا الأمر يجب أن يشكّل بنداً أساساً لجميع القوى السياسية التي لديها جمهور ويعاني من تردّي الوضع المعيشي والاقتصادي.
 
وما يجب أن يشكّل حافزاً على هذا المستوى ما قاله رئيس البنك الدولي لمنطقة الشرق الأوسط فريد بلحاج الذي أبدى دهشته «من الاختباء دائماً وراء ذريعة الوضع السياسي، فيما كل البلاد لديها مشكلاتها السياسية، لكنها تتقدّم في مجال الإصلاحات الاقتصادية»، والمشكلات السياسية طبيعية في أيِّ نظام سياسي، ولكن ما هو غير الطبيعي تجميدها للبلاد وتأثيرها على الجوانب الحياتية للناس.
 
فقد يصبح آخر هموم المواطنين إذا تشكّلت حكومة أو لم تتشكّل طالما أنّ الوضع الاقتصادي في ألف خير ولم يتأثر بالفراغ السائد، وقد يصبح انتخابُ رئيسٍ للجمهورية أو عدمُ انتخابِه من آخر هموم الناس طالما أنّ أولوياتهم الحياتية مؤمَّنة ولا خوفَ على الوضع النقدي وحدودُ الفراغ لا تتجاوز انتخاب رئيس جديد.
 
وإذا كان العامل الاقتصادي يضغط على القوى المعطلة من أجل إنهاء الفراغ الرئاسي أو الحكومي، إلّا أنّ هذا الجانب أيضاً يجب معالجته من خلال الاتّفاق على معايير واضحة المعالم تحول دون الفراغ من قبيل إلزام النواب بالمشاركة في جلسة الانتخابات الرئاسية ومنع مقاطعتها وصولاً الى انتخاب الرئيس بالأكثرية، أو من قبيل وضع معايير ثابتة لتأليف الحكومات تجعل التأليف سريعاً بآليات واضحة ولا خلاف حولها، خصوصاً أنّ المعنيّين بالتأليف ثلاثة أطراف أساسية: الرئيس المكلف ورئيس الجمهورية والكتل النيابية.
 
فالأعطاب الموجودة في النظام السياسي اللبناني كثيرة، ولكن ما هو ملحّ اليوم وضع الضوابط الصارمة التي تحول دون الفراغ الرئاسي أو الحكومي، كذلك وضع قواعد الفصل بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي، حيث لم يعد مسموحاً، كما قال بلحاج، التذرّع بالخلافات السياسية لإفقار البلاد والعباد.
 
فمن أجل فصل السياسة عن الاقتصاد يمكن التفكير مثلاً في أن تواصل حكومة تصريف الأعمال اجتماعاتها على أساس جدول أعمال محدّد أو أفكار أخرى يتمّ فيها تحييدُ كل ما هو اقتصادي عمّا هو سياسي.
 
ومع دخول الأزمة الحكومية في فصل جديد من التعطيل يصعب التكهُّن بنهايته في ظلّ انتهاء المبادرة الرئاسية مبدئياً وإصرار سنّة 8 آذار على الدخول إلى الحكومة ورفض الرئيس المكلف سعد الحريري تمثيلهم وإعلانه مسبقاً رفضه مقولة سليمان الحكيم أن يكون «أمّ الصبي» الذي دعا الرئيس ميشال عون إلى اعتمادها مخرَجاً من الفراغ المتمادي، فإنه لا بد من التفكير في البدائل الممكنة بدلاً من الانتظار على رصيف الفراغ والاكتفاء بالرهان على محطات وتواريخ أثبت الفراغ أنه أقوى منها، ولا بل هناك مَن بدأ يتحدث عن أنّ الفراغ سيستمرّ طوال عهد عون.
 
وعليه، لماذا لا يدعو رئيس الجمهورية إلى طاولةِ حوارٍ استثنائية ببندَين فقط لا غير: طريقة فصل السياسة عن الاقتصاد، ووضع معايير للتأليف الحكومي وضوابط للانتخابات الرئاسية، وأن يكون النقاشُ مسؤولاً وليس تحويله خلافياً لإجهاض المسعى الحواري.
 
فالمبادرة في يد عون، ولا يجوز ترك البلاد تنزلق نحو الهاوية، وإذا كان التأليفُ وصل إلى الحائط المسدود، فيجب البحث في الأساس مجدداً والعمل على وضع الآليات التطبيقية للانتخابات الرئاسية وتأليف الحكومات ووضع قواعد فصل حديدية بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي، وكل ذلك عن طريق طاولةِ حوارٍ استثنائية.