الاستقلال هو يوم مجيد في تاريخ الشعوب في نضالها لنيل استقلالها، ومحطة من المحطات الوطنية التأسيسية والمشتركة والجامعة في كل ما تختلجه من مشاعر وطنية استثنائية، لأن لا قيمة لأيّ بلد فاقد لاستقلاله.
 

فالاستقلال هو المصدر الأساس للاستقرار والتقدم والإزدهار، ومن دونه يعني، إما لا وجود لدولة، وإما أنّ الدولة صوَريّة، وهذا هو واقع الحال في لبنان اليوم، حيث إنّ وجود الدولة هو وجود صوَري بفعل مصادرة قرارها الاستراتيجي.

ولكنّ اللبنانيين أمام خيارَين لا ثالث لهما: إما التسليم بواقع انّ الدولة صوَرية أو الذهاب إلى اللادولة، وبما أنّ أحداً لا يريد تكرار تجربة الحرب اللبنانية، فيعني أنّ المطلوب النضال من أجل تحويل الدولة الصوَرية إلى دولة فعلية.

ولا خلاف مبدئياً حول هذا التوجّه، إنما الخلاف، إن وُجد، فهو حول أسلوب المواجهة لتحقيق الاستقلال الحقيقي، ما يعني أن لا خلاف في الجوهر، بل فقط في الأسلوب، حيث يمكن كل طرف أن يواصل نضاله وفق طريقته من دون مزايدات ولا تخوين.

والأساس يكمن في الهدف الذي يُفترض تحقيقه وهو استعادة الاستقلال، وهذا الهدف يجب أن يبقى من ضمن أولويات الأهداف النضالية، ولكن لكل فريق أسلوبه وطريقة نضاله وعمله وتقديره للحظة الوطنية.

وليس صحيحاً أنّ المواجهات السياسية كفيلة وحدها باستعادة الاستقلال، بل قد تدخل البلد في انقسام عمودي يعطّل ما تبقّى من استقرار ويمكن أن يجرّ الى سخونة وانزلاقات خطيرة، فيما لكل مرحلة أسلوبها، فمرحلة المواجهة العسكرية اختلفت عن المقاومة السلمية، والمواجهة الحالية تختلف عن سابقاتها، فلا توجد قاعدة يمكن تعميمها على كل المراحل، ولكنّ القاعدة الوحيدة هي إبقاء هدف استعادة الاستقلال في طليعة الأهداف الوطنية.

ورفعُ هذه الأولوية إلى مصاف الأولويات مردّه إلى أمر أساس وهو أن لا دولة من دون استقلال، ولا استقرارَ ثابتاً من دون استقلال، ولا اقتصاد مزدهراً من دون استقلال، ولا عيش مشتركاً حقيقياً من دون استقلال...

ومعلوم أنّ مفتاح استعادة الاستقلال هذه المرة هو خارجي بامتياز، ربطاً بتطورات النزاع الأميركي - الإيراني، ولكنّ هذا لا يعني أن تستقيل المكوّنات الداخلية من أدوارها بالرهان على الخارج، لأنّ الرهان الفعلي هو على الإرادة الوطنية التي يجب أن تبقى حاضرة وجاهزة لتلقّف التطورات الخارجية التي تصبّ في الخانة الدولتية واللبنانية، أي بتثبيت الشراكة وخيار الدولة والابتعاد عن منطق الغلبة الذي لا يؤدّي إلّا إلى الثأثر والغلبة المضادة. 

ومَن يتحمّل جرّ البلد إلى حرب فليتحمّل مسؤولية قراره وليصارح اللبنانيين بخياراته؟ ومَن قال أصلاً إنّ الحرب تقدّم حلاً؟ ومن قال إنّ لبنان لن يترك لسنوات يتخبط في حروبه على غرار ما هو حاصل في سوريا وغيرها؟ ولكنّ هذا لا يعني الاستسلام للأمر الواقع، إنما المواجهة بإرساء التوازن الذي يؤدي إلى ربط نزاع في النزاع الاستقلالي ويوفّر الاستقرار للناس الذي يحتاجونه من اجل استمراريّتهم في هذا البلد.

والتوازن القائم اليوم هو توازن فعلي، والتوجّه الاستقلالي بعموده الفقري المتصل بالاستقرار وعدم استخدام لبنان صندوق بريد هو الغالب خلافاً لكل ما قيل ويقال، والسبب الأساس لأنّ الناس ملّت المواجهات العقيمة وإدخالها في حروب لا ناقة لها فيها ولا جمل، وهناك فرصة حقيقية لتمدّد مشروع الدولة رويداً رويداً وتدريجاً تدريجاً وصولاً إلى الاستقلال الناجز. 

فأولويّة الناس اليوم راتبها في آخر الشهر والحصول على فرصة عمل ودفع أقساط أولادها في المدارس والجامعات وتأمين مستلزماتها الحياتية اليومية من مأكل وملبس وكهرباء وماء، والهمّ الاجتماعي أصبح فعلاً عابراً للطوائف، كذلك الهمّ المعيشي والبيئي والاقتصادي، وبالتالي مَن يجرؤ على ضرب الاستقرار السائد سيتحمّل المسؤولية أمام الناس المستعدّين فعلاً لإعلانها ثورةً من أجل الاستقلال، وهذه الثورة ستكون جامعة لكل المذاهب والطوائف والمناطق.

والمطلوب اليوم، وأكثر من أيّ يوم مضى، التأسيس على الوجع الاجتماعي والاقتصادي والمعيشي والبيئي المشترَك من أجل توسيعه إلى همٍّ وطنيّ مشترَك، فالنّق لا ينفع، ونعي الاستقلال لا يفيد، والقرف والإحباط والاستقالة من الشأن العام تضرّ بالوطن والاستقلال، والمزايدات السياسية لتسجيل النقاط لا تقدم ولا تؤخر، وقد أظهرت المرحلة الأخيرة أنّ اللبنانيين قادرون على تجاوز خلافاتهم والاجتماع على مكافحة الفساد وقيام دولة نظيفة وشفافة.

والمطلوب أخيراً أن نستذكر الاستقلال في كل 22 من شهر تشرين الثاني من أجل أن نجدّد الوعد والعهد بمواصلة النضال في سبيل قيام الدولة السيّدة على أرضها، والدولة الخالية من الفساد والتي همّها الأول والأخير المواطن اللبناني بحرياته وعيشه الكريم وأن يبقى مرفوع الرأس بهويّته اللبنانية.