أصاب رئيس الجمهورية العماد ميشال عون بتكليفه الوزير جبران باسيل معالجة عقدة تمثيل سُنّة 8 آذار، وهو يقوم بهذا الدور ليس من موقعه الوزاري أو الحزبي إنما كموفد رئاسي.
 

لا يمكن أن تستقيم الحياة السياسية في لبنان من دون وجود ضابط إيقاع يعمل على معالجة الخلافات ويتولّى إخراج البلد من الأزمات التي يمكن ان تستجد، لأنّ الدستور تحوّل، ويا للأسف، وجهة نظر، وبالتالي لا تشكل العودة إليه حصراً المخرج المطلوب من أيّ أزمة، ولذلك على القوى السياسية المعنية أن تتحمّل مسؤولياتها الوطنية في تقريب وجهات النظر للخروج من أيّ انسداد سياسي.

ففي زمن الاحتلال السوري للبنان لعب هذا النظام دور ضابط الإيقاع في الحياة الوطنية فكان قرار الحسم ملكه وفي يده، وخرج من «التيار الوطني الحر» مَن يقول إنّ «اتفاق الطائف» فُصِّل على قياس أن يُدار من دمشق لا من بيروت، وهذا القول الذي استغرق طوال الوصاية السورية على البلد غير صحيح بدليل أنّ أصحابه تراجعوا عنه وكان الهدف منه فقط النيل من هذا الاتفاق ومَن وافق عليه، فيما الحقيقة أنّ المشكلة ليست في النصوص التي لا تطبّق أصلاً، إنما في إدارة التعدد اللبناني.

وقد يكون من الصعوبة بمكان أن تتولّى جهة محلية واحدة في استمرار حلّ النزاعات لسبب بسيط هو أنّ هذه الجهة قد تكون سبباً او منخرطة في مواجهات معينة، وبالتالي لا يجوز في هذه الحال أن تغيب الوساطات المطلوبة ويُترك البلد في الفراغ والتعطيل، بل يجب أن تسود روح المبادرة لدى كل مَن يرى نفسه وسيطاً صالحاً وقادراً على تقديم المخارج الممكنة.

وانطلاقاً من معادلة القاعدة والاستثناء، فإنّ القاعدة هي في أن تتولّى رئاسة الجمهورية هذا الدور، فتكون ضابط إيقاع الحياة الوطنية في لبنان، الأمر الذي يعزّز دورها ويُظهرها في موقع الساهر ليس فقط على الدستور كما هو منصوص، إنما أيضاً على انتظام الحياة الدستورية والسياسية، والمرجعية الوطنية التي يمكن الركون إليها في الأزمات.

فرئاسة الجمهورية هي أمام خيار من خيارَين: إما أن تكون في حالة نزاعية مع المكوّنات الأخرى شأنها شأنهم، وإما أن تكون فوق هذه النزاعات، ولكن ليس على طريقة الملك الذي لا يملك ولا يحكم، لأنه في هذه الحال لن يكون قادراً على توليد الحلول، بل يجب أن تكون في الموقع المؤثر في الحياة الوطنية.

والخلل الأساس الذي أصاب «اتفاق الطائف» إلى جانب رفض تطبيق البند السيادي، كان إضعاف موقع رئاسة الجمهورية بفصلها عن بيئتها السياسية خلافاً لواقع الحال في الرئاستين الثانية والثالثة، وهذا الفصل كان مقصوداً لإضعاف المسيحيين ودورهم، وما تحقّق مع انتخاب عون هو المطلوب تحديداً لجهة التوازن التمثيلي بين الرئاسات، وعودة رئاسة الجمهورية إلى وجدان بيئتها.

فمع رئاسة جمهورية تمثيلية، وقوّتها لن تكون متأتية من النصوص التي لا قيمة لها في بلد مثل لبنان، بل من تمثيلها الشعبي والنيابي والوزاري واستطراداً دورها، يمكن أن تتحوّل ضابطاً فعلياً للإيقاع في الحياة السياسية اللبنانية، وهذا الدور مطلوب اليوم من عون بغية تكريسه إنجازاً يضاف إلى إنجاز انتخابه وإقرار أوّل قانون انتخاب بعد «إتفاق الطائف» أعاد تصحيح الشراكة وأحيا الميثاق.

فخطوة رئيس الجمهورية تكليف موفد رئاسي خاص لحلّ الأزمة المستجدة هو عين الصواب كونه لا يجوز ترك الخلافات تتمادى وأن لا يكون هناك مَن يبحث عن المخارج والحلول، ولكنه لخطوة من هذا النوع أسس وموجبات يجب الالتزام بها لإنجاح رئاسة الجمهورية في دورها كضابط إيقاع الحياة الوطنية:

ـ أولاً، الانتخابات النيابية أعطت رئاسة الجمهورية حقها التمثيلي الذي ستعمل على ترجمته داخل الحكومة، وبالتالي يجب الاكتفاء بهذا المقدار بغية إعطاء الأولوية للدور الوطني الذي في حال نجاح الرئاسة فيه يتحوّل تمثيلها عابراً للطوائف.

ـ ثانياً، ضابط الإيقاع ينطلق من قوته التمثيلية ودوره المرجعي في الحياة الوطنية، خصوصاً أنّ أحداً لا مصلحة له في مخاصمة عهد رئاسي على مدى ستة سنوات.

ـ ثالثاً، ضابط الإيقاع يجب أن يكون محايداً وحيادياً في بحثه عن المخارج والحلول وإلّا يفقد دوره المرجعي.

ـ رابعاً، لا يجب ان يكون الدور المرجعي مناسبة او وسيلة للاقتصاص من هذا الطرف او ذاك، او تحجيم هذا الطرف وتغييب ذاك، إنما يجب أن يكون على مسافة واحدة من الجميع وهمّه الأساس إخراج البلد من محنته وأزمته.

ـ خامساً، ضابط الإيقاع يجب أن يكون «كريماً»، أي على استعداد للتضحية ولو على حسابه، من أجل حلّ الأزمات، والكريم لدى الناس وفي خلفيتها هو المرجع الذي يأخذ الأمور بصدره في سبيل البلد ومصلحته.

ـ سادساً، أولوية العهد يجب أن تكون إنجاح العهد في مسيرته وفي حكومته الثانية التي لا تتوقف على وزير من هنا او من هناك، بل على انطلاقته المطلوبة سريعاً، وكل تأخير ينعكس مباشرة على العهد نفسه.

ـ سابعاً، عندما يتنازل العهد من «كيسه» تكبر مونته، فيصبح أكثر في موقع القادر على إنضاج الحلول والمونة على القوى الأخرى.

ـ ثامناً، المبادرة الرئاسية لحلّ عقدة سنّة 8 آذار لا يمكن أن تجد حلّها سوى عن طريق تنازل رئاسي يُظهر رئاسة الجمهورية في موقع كاسحة الألغام، أي كاسحة العقد، من أجل ولادة الحكومة العتيدة.