في جلسة بين أصدقاء، أخبرتنا صديقة شيعية من المعروفين "بالمستقلين"، أنها عندما قادت سيارتها ليلا وضلت طريقها في منطقة غالبية سكانها تنتمي إلى طائفة أخرى، ظلت تشعر بالقلق إلى أن بلغت المنطقة ذات الغالبية الشيعية. اندهشت من نفسها وظلت تتساءل باستغراب: كيف ولماذا شعرت بذلك وأين تكمن المشكلة؟ فيها؟ هي العلمانية التي لا توالي "حزب الله" ولا ترضى عن ممارساته التي تصادر إرادة اللبنانيين الشيعة فيتكلم باسمهم جميعا؟ أم أنها صارت مذهبية دون أن تدري؟ أم أن ما أخافها لا يتعلق بها هي بل بنظرة الآخر ومعاملته لها! والتي ستتحدد انطلاقا من طائفتها ومذهبها وليس تبعا لأفكارها او مواقفها. ستكون بالنسبة لهم "ممثلة" الشيعية السياسية، نتيجة آليات التعميم والتنميط والآراء الجاهزة السائدة!

تشجعت حينها الصديقة الدرزية، العلمانية هي بدورها، كي تخبرنا أنها صارت تشعر بالخوف مؤخرا، متسائلة عمن سيحمي الدروز وهم الأقلية؟ في حال اندلاع العنف الذي يبطش على "الهوية" دون تمييز!

إلى هذا الحد وصل بنا الأمر مؤخرا؛ لم ينج من هاجس الانقسام المذهبي حتى المعتدلين والمنفتحين. وذلك، بعد أكثر من ربع قرن على إعلان السلم الأهلي مع توقيع اتفاق الطائف. بلغ التشنج في لبنان درجة غير مسبوقة؛ وبدل أن نتصالح مع أنفسنا بعد تحرير الجنوب وإخراج الجيش السوري، ترتفع الحواجز عالية وتتعمق الهواجس والانقسامات المذهبية مع الوقت.

اقرأ أيضاً: لماذا نسكت عن البذاءة؟ لماذا نقبل بالعبودية؟

هذا ما أوصلتنا إليه ممارسات أسياد الحرب الذين ارتضوا إدارة لبنان تحت إشراف النظام السوري منذ التسعينيات حتى العام 2005. وبعد حرب 2006 ارتضوا لـ"حزب الله" ان يحتفظ بسلاحه فارضا هيمنته بالتقسيط بقوة سلاحه الإيراني.

ظلت هيمنة الحزب مستورة بغلالة "المقاومة" والزهد الشكلي في السلطة كي يتفرغ للقتال دفاعا عن النظام السوري؛ لكن الخطاب الناري الغاضب لحسن #نصرالله، الأمين العام لـ"حزب الله"، السبت في 10 تشرين ثاني، جاء ليضع حدا للتقية المعتادة، وصرخ عاليا: الأمر لي! مؤكدا ما تغافل عنه اللبنانيون طويلا: الدولة اللبنانية مخطوفة. أعلن أنه فوق الدستور وفوق القوانين. هو يقرر وعلى الآخرين التنفيذ. ما حدا بالزعيم الدرزي وليد جنبلاط إلى نعي اتفاق الطائف. إلى هنا أوصلتنا ممارسات الممسكين بالسلطة وتخاذلهم.

بعد مضي ما يقرب المئة عام على إعلان لبنان الكبير، على يد رجال كبار صرنا نبكيهم، بعد أن ظلمناهم عندما حمّلناهم مسؤولية أخطاء ممارسات المارونية السياسية؛ التي بتنا نترحم عليها الآن، لأن ممارسات الشيعية السياسية المخلة بالتوازنات فاقت كل حد.

هناك من لا يزال يحمّل هؤلاء المؤسسين الأوائل، والنظام الذي أرسوه، مسؤولية الانهيار العميم الحاصل حتى الآن. يرفض خلفاء "المارونية السياسية"، التي انتهت في العام 1975، مسلمون ومسيحيون، الاعتراف بأنهم هم من أوصل البلاد إلى المأزق السياسي والاقتصادي عبر ممارساتهم التي قضت على إرث وإنجازات الأوائل الذين أسسوا أول دولة ديمقراطية تعددية في الشرق الأوسط.

لقد أطلق البابا بولس الثاني في العام 1997 حين زار لبنان، مقولته الشهيرة "لبنان رسالة"، لتعايش مكوناته العديدة بأمان.

لكن الملفت أن أحد صانعي الدستور، الذي يطلق عليه لقب "أبو اللبنانية"، والمقصود هنا ميشال شيحا، الذي أقيمت ندوة في معرض الكتاب الفرنسي الأسبوع الماضي، احتفالا بصدور "انطولوجيا" كتاباته السياسية والأدبية، كان قد سبق له أن أطلق هذه الصفة على لبنان. فشيحا، دأب في كل حين على مديح لبنان "الذي يتقبّل الناس مناخه من أين أتوا وتتزاور فيه الحضارات وتتبادل المعتقدات واللغات والطقوس تحيات إجلال". شيحا المنحدر، من أصول كلدانية عراقية، صاغ فكرة لبنان الملجأ أو الملاذ للأقليات المضطهدة الخائفة في الشرق، وأمل أن تصل هذه الدولة، التي قامت على التنوع الطبيعي والجغرافي والديني والثقافي، إلى مرحلة تلغى فيها الطائفية بالكامل.

لكن للأسف، لم تكن الطائفية والمذهبية في أي وقت مضى أقوى مما هي عليه الآن. ما جعل أسوأ مخاوف شيحا تتحقق، بعد أن تناوبت كل طائفة على محاولة إلغاء الآخرين للهيمنة على لبنان في خط سير عكسي لما كان يأمله شيحا ورفاقه.

بعض ما يُنقل عن ذلك الجيل، أنه عندما احتدت المناقشة بين شيحا وعمر بيهم حول بعض مواد الدستور واتسعت شِقّةَ الخلاف، انسحب الرجلان وحكّما ضميرهما وتفاهما من أجل مصلحة لبنان وكان مما قاله بيهم لشيحا: "إذا نحن اختلفنا فمن يتفق بعدنا؟ ألا تسري العدوى إلى سواد الشعب، لا غنى لنا عن التفاهم أو نُخرب البلاد".

الآن يتعطل البلد بأكمله لفرض وزير معين أو رئيس أو قانون؛ أما الخطب النارية التحريضية فحدث ولا حرج.

تجرأ أحد الصحافيين مؤخرا على نعت ميشال شيحا بأبو الفاشية اللبنانية! الأرجح، أن السبب رغبته في التخفيف من وطأة الفاشية الموصوفة التي تتحكم الآن بلبنان واستباقا لإعلان وضع اليد الذي أتحفنا به نصرالله معينا نفسه مرشدا عاما للبنان والآمر الناهي بمقدرات الدولة، مخيرا الجميع بين أن يمسك بها كليا أو يعطلها كليا. جاعلا لبنان ورقة تفاوضية بيد طهران لمجابهة العقوبات الأميركية عليها.

يسجل لريمون إده رفضه الموافقة على اتفاق الطائف، ليس بسبب ما سمي إصلاحات أو صلاحيات، بل لأنه رأى بوضوح أن الاتفاق سينهي الدولة اللبنانية لأنه استثنى "حزب الله" من "تسليم سلاحه، مؤقتا لحين التحرير". موقنا أن هذا الحزب لن يسلم السلاح وأن ما جرى هو مناورة وكذبة ابتلعها الجميع.

سبق لشيحا أن أشار، أن ما يثقل على لبنان ويحدد طبيعته، نوعان من الضغوط، تلك التي تفرضها الطبيعة الجغرافية لأنه محصور بين جبل شامخ وساحل ضيق ما يجعل من اللبناني يقبل على المخاطرة؛ وتلك الخارجية التي يمارسها المحيط الذي يتواجد فيه. لقد عانينا طويلا من جور الجيرة، أعداء (إسرائيل) وأشقاء (سوريا والنظام العربي). لكن أن يصل الأمر بلبنان لأن يكون رهينة لإيران! الدولة التي تبعد عن حدودنا آلاف الاميال! اعتقد أن هذا ما كان ليخطر ببال أحد.

الآن وبذريعة الميثاقية ـ التي صار تدخل على مستوى توظيف حاجب - حينا، والتوافقية حينا آخر أو حكومة الوحدة الوطنية، تتحقق أسوأ مخاوف ميشال شيحا، الذي كان يرى أننا إذا كنا نريد أن يكف عن كونه بلدا "طائفيا"، يجب على كل طائفة أن تقبل أو توافق، دون الكثير من الصراخ أن تتمثل أحيانا بأقل من أهميتها أو حجمها. والتعويض قد يكون بأن تمثيلها سيفوق في أحيان أخرى حجمها. ويستطرد: "ثم ألا يكفي التمثيل الطائفي النسبي في البرلمان لإقامة التوازن الضروري؟ ما حاجتنا له في الإدارة وفي كل مكان؟ ألا يمثل شخص درزي كفؤ جميع المواطنين؟ إذا غاب في لحظة معينة مكونان طائفيان أو 3 ماذا يمكن أن يحصل؟ كل شيء سيكون على ما يرام عندما لا نؤذي أحدا".

وإذا كان يجب حمل الميزان ووضع وزير مقابل وزير وكاتب مقابل كاتب، علينا حينها أن نخرس، لأننا بهذا الشكل ندخل بلدنا في صعوبات لا حل لها.

لكن كل ذلك ليس سوى ذرائع لإعادة النظر بالنظام السياسي اللبناني وبالدستور والدولة اللبنانية نفسها. فإما أن تكون في المحور الإيراني أو لا تكون بالنسبة للشيعية السياسية المستقوية والخائفة في الوقت عينه.