صحيح أنّ «القوات اللبنانية» وتيار «المردة» حصرا المصالحة بينهما في بكركي بأبعادها الإنسانية والقيمية والمبدئية، وأصَرّا على تحييدها عن أيّ ظرف سياسي أو أي مناسبة أو استحقاق انتخابي، إلّا انه لا يمكن فصل تأثيراتها على ثلاثة أبعاد أساسية.
 

لا يمكن في الحياة السياسية فصل أي حدث عن آخر على رغم عدم علاقة الأوّل بالثاني، لأنّ الحياة السياسية كالحياة البشرية كناية عن مجموعة أحداث منفصلة ومترابطة في آن معاً، ولكن لا بد من ان يكون لكلّ حدث تأثيراته وتفاعلاته على مجمل المشهد السياسي.

وما تقدّم لا يعني انّ المصالحة ليست قيمة مطلقة في حد ذاتها، ولا يعني انّ الطرفين لهما غايات أبعد منها، ولا يعني أنّ هناك ما يَسمو على المصالحة وضرورة طَي صفحة الماضي وإقفال كل صفحات الحرب والانطلاق نحو المستقبل، إنما الواقعية السياسية والمنطق السياسي يستدعيان الإقرار بأنّ خطوة من هذا النوع ستفتح الأبواب التي كانت موصدة في السابق، وبالتالي تصبح الخيارات السياسية معها مفتوحة، ولكن ما يجب التوقّف عنده عملياً يتصل بأبعاد هذه المصالحة، وهي مُثلّثة:

ـ البعد الأول مسيحي بامتياز مع إنهاء آخر صفحة من الحرب اللبنانية التي تسبّبت بالانقسامات داخل البيئة المسيحية، مع ما يعني ذلك من ارتياح مسيحي شعبي، لأنّ المسيحيين تعبوا ومَلّوا من الخلافات والشرذمة والحروب الباردة بعد الساخنة، ويعني أيضاً إعادة توحيد الجسم المسيحي الذي لم تعد العدائية والقطيعة والانقسامات العمودية هي القاعدة بين مكوّناته، بل أصبحت المواضيع والملفات السياسية والقضايا الوطنية هي القاعدة التي يمكن أن يتم الالتقاء حولها او عدمه.

فلم يكن في إمكان «القوات اللبنانية»، مثلاً، أن ترشّح العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية لولا المصالحة بين «القوات» و«التيار الوطني الحر». وبالتالي، إنّ ما قبل المصالحة هو غير ما بعدها، لجهة إفساحها في المجال أمام تحالفات وتقاطعات وتفاهمات لم تكن مُتاحة قبل تحقيقها.

فالمصالحة تفتح الخيارات السياسية التي كانت مقفلة قبلها، ويبقى على أصحاب الشأن، إنطلاقاً من أولوياتهم، التقاطع أو عدمه، ولكنّ الأساس انّ ما كان مُحرّماً او مستبعداً أصبح وارداً وممكناً، وذلك على رغم من انّ الهدف الأساس للمصالحة هو طَي صفحة الماضي وتطبيع العلاقات وفصلها عن أي ظرف سياسي أو مناسبة أو استحقاق انتخابي. 

ـ البعد الثاني وطني بامتياز، حيث أنّ سقوط الحواجز الواحد تلو الآخر يساهم في تفعيل الحياة السياسية، وتكفي المقارنة بين الوضع الذي كانت عليه البلاد في زمن الانقسام العمودي واليوم، وقد تبيّن انّ المصالحات المسيحية تشكل جسور تواصل على المستوى الوطني، وتؤدي إلى تنفيس الاحتقان، وتفتح أبواب الحركة السياسية.

فخروج «التيار الوطني الحر» من حالة 8 آذار إلى الوسطية السياسية ساهمَ في فكفكة الاصطفاف الذي كان قائماً، على رغم من انّ عناوين الخلاف ما زالت نفسها، ومن الصعوبة في مكان إعادة عقارب الساعة إلى الوراء في حال تمسّكت «القوات» و«التيار الوطني الحر» و«المردة» بإبقاء قنوات التواصل قائمة بين بعضها البعض. والفارق الأساس في المشهد السياسي بين الأمس واليوم، هو المصالحات المسيحية التي كسرت الحواجز، ونقلت لبنان إلى وضعية جديدة.

وإذا كانت التسوية الرئاسية التي كانت «القوات» في طليعتها أدّت إلى خلط الأوراق وأعادت الاعتبار الى الانتظام المؤسساتي، فإنّ المصالحة بين «القوات» و«المردة» ستؤدي إلى تدعيم هذا التوجّه والمساهمة في مزيد من خلط الأوراق والتنسيق والتعاون والتقاطع حكومياً ونيابياً ووطنياً. فالأبواب الموصدة تقود إلى مزيد من الأبواب الموصدة، والأبواب المفتوحة تقود إلى فتح مزيد من الأبواب.

وحتى العلاقة مع «حزب الله»، قبل التسوية كانت شيء وبعدها تحوّلت شيئاً آخر على رغم الخلاف الوطني الاستراتيجي مع «الحزب»، حيث انّ سلوكه في الداخل تَبدّل، وأي مواجهة سيخوضها ستكون بالمباشر وليس بالواسطة كما كان يحصل سابقاً. والمقصود قوله انّ المصالحات تؤدي إلى إرساء مناخ سياسي مختلف، وتشكّل «عدوى» إيجابية تنعكس على كل المشهد الوطني. 

ـ البعد الثالث دولَتي بامتياز، حيث انّ انقسام المجتمع يشكّل الممر الإلزامي لسقوط الدولة، وهذا ما حصل فعلياً مع الانقسام الذي بدأ طائفياً ومن ثم انتقل إلى داخل الطوائف، وعملت الوصاية السورية على تغذيته قبل ان يتحوّل أولوية الأولويات لدى هذه الوصاية التي أدركت أنه في اللحظة التي يلتئم فيها الصف اللبناني تخرج من لبنان، وهذا ما حصل فعلياً على أرض الواقع.

كان يفترض بـ«اتفاق الطائف» أن يُنهي انقسامات الحرب ويعيد توحيد اللبنانيين تحت سقف الدولة التي تجمعهم، لكنّ الانقلاب السوري على هذا الاتفاق حال دون ذلك، فأخذت المصالحات تتحرك بالمفَرّق، من مصالحة الجبل، إلى المصالحة الوطنية في انتفاضة الاستقلال، إلى المصالحة المسيحية بين «القوات» و«التيار الوطني الحر»، وأخيراً بين «القوات» و«المردة».

فعن أيّ مشهد سياسي يمكن الكلام لولا كل تلك المصالحات؟ وهل يمكن تصوّر كيف أنها نقلت لبنان من ضفّة إلى أخرى؟ فعلى رغم الخلافات السياسية التي تَستعِر حيناً وتتراجع أحياناً بين هذا الفريق أو ذاك، لم تعد العلاقة بين المسيحيين والدروز الى ما قبل المصالحة، ولا العلاقة بين المسيحيين والسنّة، ولا العلاقة بين «القوات» و«التيار الوطني الحر». وبالتالي، أصبحت المصالحات من ثوابت المشهد الوطني.

وهذه المصالحات كفيلة مع الوقت بتوحيد كل مكوّنات المجتمع، والأهم أنها تضع الضوابط للخلافات السياسية، لأنّ أحداً لا يريد العودة إلى الوراء، فيما الجميع يكون قد اتّعَظ من عِبَر الماضي ودروسه، فتنتهي الشيطنة والقطيعة والتخوين لمصلحة إدارة الخلافات السياسية، وقد دَلّت فترة التأليف الى انّ الأمور بقيت تحت السيطرة على رغم حدّة المواجهات التي تخللتها.

وإذا كان انقسام المجتمع يشكّل الممر الإلزامي لسقوط الدولة، فإنّ وحدته تشكّل الممر الإلزامي لقيام الجمهورية القوية، ولا بدّ لكل هذه المصالحات إلّا أن تقود، عاجلاً أم آجلاً، إلى قيام الدولة وترشيد الممارسة السياسية.