يجمع اللبنانيون من ساسة ومواطنين على حقيقتين، الأولى أنّ وضع لبنان الإقتصادي في قلب دائرة الخطر، وأنّ الأرقام التي يملكها المسؤولون تدعو للقلق مقابل الوقائع التي يعيشها المواطنون وتدعوهم للغضب، والثانية أنّ عظمة الإنجازات الوطنية والأمنية والسياسية تذبل وتصغرعندما لا تنجح الدولة بتحويل نجاحاتها إلى حقائق إقتصادية، تنعكس من خلالها على إجمالي حياة المواطنين وتحسّن منظومة الخدمات التي تقدّمها الدولة لهم من جهة، وعلى مستوى معيشتهم الناتج حكماً عن تحسّن الأحوال الإقتصادية في البلاد من جهة مقابلة، ويذهب الإقتصاديون إلى القول أبعد من ذلك، فيعتبرون التحسّن في مؤشرات النموّ في أيّ دولة رقماً ورقياً، ما لم يترافق مع تحسّن في مستوى معيشة الناس وفي مستوى نوعية الخدمات التي يتلقونها.

كان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي يتقن علم الإستراتيجية وفنونها، قد أكمل الإستعداد لبلورة خطة نهوض إقتصادي بلبنان، إدراكاً منه لكون الإقتصاد هو المصرف الذي تسحب عليه شيكات السياسة ويظهر فيه رصيدها في التفاصيل اليومية لحياة الناس، وسعياً منه لرفع الضغوط القاتلة عن كاهل الإقتصاد، وإطلاق عجلة النموّ في دورة الحياة الإقتصادية، ومعالجة الخلل في مالية الدولة، وتصويب مسار علاقتها بمواطنيها، سواءٌ من خلال أولوية مكافحة الفساد، أو من خلال العناية الخاصة بالخدمات العامة قي مجالات الصحة والكهرباء والبيئة والتعليم والإسكان، وكان سعيُ رئيس الجمهورية منذ بدء المساعي لتشكيل الحكومة فعل كل الممكن لتسريع ولادة الحكومة بصفتها المحرّك الرئيسي لعجلة الدولة وآلتها، والغالبية اللبنانية العظمى تثق بصدق وعود رئيس الجمهورية، وتراهن على منحها فرص التحقق.

في التوقيت السياسي الدولي والإقليمي العاصف المحيط بلبنان، وفي التوقيت السياسي اللبناني الصعب، والمتداخل بالضرورة مع كل ما يجري حولنا، تتعطّل آلة الدولة عن القدرة على المبادرة لمواجهة التحدّيات والإستحقاقات الإقتصادية التي يعيشها لبنان ويقع اللبنانيون تحت أعبائها، بصورة جعلتهم يكفرون بالسياسة والسياسيين، فنستشعر خطورة الوقت الثقيل الذي يمرّ على لبنان واللبنانيين، والذي يعطل فرص الإنطلاق بخطة النهوض والنموّ، ونستشعر معها خطورة أن تضيع الفرص التي تنتظر لبنان للعب أدوار إقتصادية يتميّز بالقدرة على أدائها في المنطقة، وأن تحول السياسة بينه وبينها، فيكون اللبنانيون وهم يتلهّون بلعبة التجاذب السياسي كمَن يلحس المبرد، يتلذّذ بطعم دمائه وهو ينزف، بينما الفرصة تجد مَن يملؤها لأننا تأخرنا عن ملاقاتها في التوقيت المناسب، وكثيرة هي الفرص التي تتيحها أمامنا التحوّلات الجارية من حولنا، وقصيرة هي المهل المتاحة أمامنا لملاقاتها.

ستة شهور ونحن ندور حول أنفسنا في مشاروات تشكيل حكومة، ونكتشف أنّ ما تمّ فعلُه بعد شهور كان ممكناً قبله، وسنكشتف بصدد الباقي من العقد ذات النتيجة عندما يتمّ التوصل إلى التفاهم على أيّ حلّ لها، بأنّ ما تمّ القبول به يومها ممكن اليوم، لنتساءل عمّا إذا كان يحق للسياسة أن تفعل بنا وببلدنا ما تفعل، سواءٌ بحسن نية أو بسوء نية، فلبنان واللبنانيون يستحقون افضل من أن يعاقبهم قادتهم على أحلامهم بوطن العيش الكريم، وبإسم التفويض الشعبي الذي نالته كل الكتل النيابية تجري عملية قتل للوقت الثمين، ومعها قتل للحلم الكبير، الذي عاشه ويعيشه هؤلاء الذين ذهبوا إلى صناديق الإقتراع ومنحوا السياسيين هذا التفويض ليكون مصدرَ خير لهم ولبلدهم، وهم ينتظرون الوفاء بالوعود، بتحسين الحال الإقتصادية، وتخطّي المخاطر، والتقاط الفرص، والأمر يختصر ببساطة بالإجابة عن سؤال، ما دمتم ستتفقون في الغد فلم لا تتفقون اليوم، وما أتفقتم عليه بالأمس لماذا لم تتفقوا عليه قبل شهور، يحقّ لنا عليكم أن تسارعوا لطيّ صفحات الخلاف بتسويات ممكنة وستُثبت الأيام أنها ممكنة، لكن قبل أن يزيد رصيد خسائرنا إلى درجة يصير معها من الصعب تعويضه، وقبل أن تضيع علينا فرصٌ يصير من الصعب ملاقاتها.

أليس ما نفعله بأنفسنا هو عملية إنتحار جماعي، على طريقة ما تفعله بعض اجناس الحيتان على ضفاف المحيطات، وكل السياسيين يدركون أنّ ما نحتاجه من وقت لإنجاز الورشات الإصلاحية التي تعهّد بها لبنان في مؤتمر سيدر قبل ستة شهور يحتاج إلى ستة شهور لاحقة على الأقل، وأننا بتأخّرنا نفقد الكثير من مصداقيتنا، كما يدركون أنّ مهمة السياسيين البحث عن كل بارقة أمل وملاقاتها، لا قتل كل أمل قادم أو قائم، فالتشاؤم واليأس والإحباط تسيطر على اللبنانيين، والنتيجة ركود وشلل في الدورة الإقتصادية والمصرفية والعقارية والإستهلاكية، بسبب الصورة السوداوية التي توجّهها الحياة السياسية حول الغد اللبناني، وليس فقط بسبب الأرقام المقلقة حول الوقائع المالية، التي تقابلها أرقام معاكسة بالآمال المعقودة على خطط الإصلاح، فهل ننتبّه أنّ أوّلَ ما نحتاجه هو وقف هذا الإنتحار الجماعي، الذي نذهب إليه بأقدامنا وبعيون مفتوحة بلا رادع؟