قامت نظرية التحليل النفسي للإبداع الأدبي على معالجة حمولات النص بوصفها انعكاساً لتراكم الإنفعالات الداخلية، وتحويلاً لسلسلة من الإخفافات وما قرَّ في اللاوعي إلى حالة إبداعية، إذ يُقارن سيغموند فرويد في هذا السياق بين العالم الذي يتخيّله الطفل وما ينجزه الشاعر، حيث أنَّ الأخير يتحرر من اشتراطات الواقع من خلال إعادة بناء عالمه بالكلمات التي تفارق دلالتها المألوفة لتكتسبَ مزيداً من الشُحنة التعبيرية في المدوّنة الشعرية، تماماً مثلما يبنى عالم الطفل الخاص.
 

يُذكر أنّ الطفولة كثيراً ما ترمز إلى البراءة والنقاء، وفي ذلك مفارقة ملفتة في حياة الإنسان الذي يحاكي عالم الكبار وهو طفل، وعندما يغادر تلك المرحلة يبوحُ بشوقه لاستعادة ما فاته من أيام جنةٍ مُنقَضية.

التواصل مع عالم الطفولة

هذا ما تشتغل عليه الشاعرة والمترجمة المغربية رجاء الطالبي في قصيدتها المعنونة بـ«على الحواف أجرّب مراقصة الغريب»، التي تنتظمُ ضمن ديوانها الأخير «قرصة على خد الخسارات» الصادر عن دار فضاءات - عمان 2018، إذ توحي مفردات تلك القصيدة بأنّ صاحبة «مكان ما في اللانهائي» تتوخّى من كتابة الشعر إيجاد التواصل من جديد مع عالم الطفولة، «تبعتُ الشعرَ لأعانق طفولة لا تشيخُ، تركضُ منفلتةً كلّما هبَّ من يشوشُ صفحة النهر».

يُلاحَظ أنّ ما يشكل هيكلية هذه القصيدة كلماتُ تُعبّر عن الرغبة للعودة للانصهار مع الطبيعة والانطلاق في بَراحها بموازاة مُعانقة زمنٍ لم يَعُدْ له وجود إلّا في ألبوم الذاكرة التي تعود إليها الشاعرة في قصيدة - طفولة الكتب - مرة أخرى.

أكثر من ذلك، يبدو أنّه بخِلاف ما كان عليه الأمر بالنسبة للمتنبي الذي نام ملء جفونه عن شوارد الشعر، فإنّ رجاء الطالبي هي التي تتبعُ الشعرَ وتسير على هديه، فالبتالي تكتسبُ حواسها فاعلية لإدراك مكوّنات الطبيعة، إلى أنْ تُفضل الذات الشاعرة مُقاطعة الجموع واختبار حياة أخرى بعيداً عن الضجيج.

العزلة

يُشار إلى أنّ العزلة هي ثيمة أساسية للنصوص المنبسطة بعناوين فرعية ضمن تشكيلة هذا الديوان الذي يتضمّن قصائد متفاوتة الطول والقصر، إذ تأتي بعض القصائد على شَكل وَمضات شعرية تُعبرُ عن لحظة وجدانية أو فكرة مَرّتْ في سماء المخيلة، كما لا يخلو قسم آخر من القصائد من نفحات نستولوجية، إذ تَلوذ الشاعرة بمنجم الذكريات لتَنهَل منه صورها الشعرية، مثلما يبدو هذا الملمح واضحاً في المقطع الشعري الذي يحمل عنوان «طريق الأحشاء».

إضافة إلى ذلك، إنّ الشاعرة توظِّف في تركيبة معظم أشعارها ضمير المُتكلم، وهذا أمر يكسي فضاء القصيدة بسِمات ذاتية.

ومن المعلوم أنّ من خصائص الأسلوب المعاصر في كتابة الشعر هو النأي عن الطابع الشعاراتي والبَهرجة اللغوية والانتفاخ التعبيري والانهمام، بدلاً من ذلك على الهواجس الذاتية والتأمّل في مفاهيم وجودية ومُساءلتها في صياغات شعرية، كما تستشفُ هذا الإجراء في قصيدة «يحاولُ الأمل» التي تَتَناص مع أسطورة أورفيوس الذي حاول إنقاذ زوجته في العالم السُفلي لكن ما عاد به ليس إلّا نشيداً. كذلك الحال فيما يتعلق بالأمل، لا تنتظر منه الشاعرة أكثر من صناعة الأناشيد.

مفردات مُطعمة بسحر الشعر

وتتناول رجاء الطالبي موضوعة الموت، لافتةً إلى أنها ظلت ساهية عن معناه قبل أن ترحلَ عمّن أحَبّتهم. وما لا يَغفل عنه المتلقّي في هذه التجربة الشعرية هو الرغبة المُضمرة للعُزلة لدى الذات المُبدعة، كأنَّ الإبداع يحتمُ التبتلَ في محرابه، وإلّا لا يمكنُ تحويل الخسارات ولا الأمنيات المؤجّلة إلى مُفردات مُطَعّمة بسِحر الشعر.

يفتتحُ المقطع المُعنون «منجم الخسارات» حلقات القصائد المُتتابعة، حيث تَلمس في مضمونه أثرَ فلسفة نيتشة. هنا لا تستجدي الأنثى المُبدعة عطف الآخر وشفقته بقدر ما تأملُ أن تُصبحَ الخسارات مصدر القوّة، مُقتنعةً بما قاله فيلسوف المطرقة «الضربة التي لا تميتني تقوّيني»، وتَتمثّل لنصيحته في الإقامة على الحافات. ضِف إلى هذا أنّ الحبّ ليس قرين الرحمة لدى رجاء الطالبي، وهي تنشدُ حباً لا يُؤَول ولا يُفسّرُ بغيره من الكلمات.

وليدة العبقرية الشعرية

بالطبع، إنّ التفاعل بين الفلسفة والشعر قائم لأنّ جميع المذاهب الفلسفية هي وليدة العبقرية الشِعرية، على حَدّ قول الشاعر «بليك».

ومن المعلوم انّ التشخيص في الشعر الحديث هو امتداد لفن الاستعارة الذي يُعتبر قواماً في بناء اللوحة الشعرية، لهذا نرى أنّ رجاء الطالبي تمكّنت من تشخيص الحالات الإنسانية، إذ تتخذُ العزلة صورة المعطف الذي تتوارى وراءه الذات الشاعرة، لكنّ هذا لا يحول من دون غياب ملامحها، فإنَّ ما تُسّميه الغريب يتعرّف إليها.

فضلاً عن ذلك، تعتمدُ الطالبي على المراوغة التعبيرية والمجازات في تأثيث بنية القصيدة والعنوان مثل «أكمل بالنقصان»، كما أنّ ثيمة الطبيعة مبثوثة في مضامين ما يضمّه «قرصة على خَد الخسارات». ويَتوالد الإيقاع من خلال تكرار حروف النفي أو مُتتاليات الجمَل الفعلية، والتنوّع بين الأسلوب الإنشائي والخبري.

وبذلك تُؤسّس الشاعرة نُظماً تعبيريّاً خاصاً، إذ تحاول الكتابة على إيقاع العالم الداخلي، وتعزفُ عن الاهتمام بما يقع خارج همومها الذاتية، على رغم وجود العناوين الفرعية لنصوص هذا الديوان. لكن ما ان تتمّ عملية القراءة، حتى تتخذ دلالات القصائد شَكلَ كيانٍ واحد في ذهن المُتلقّي.

ما يجبُ قوله انّ في رصيد رجاء الطالبي 5 مجاميع شعرية، منها: «حياة أخرى، عزلة السناجب، برد خفيف». هذا فضلاً عن ترجمتها لرواية «صباح الخير أيها الحزن» لـ فرانسواز ساغان، و«كتاب الهوامش» لـ أدموند جابيس، كما كتبت دراسة بعنوان «المقبرة النشيطة» حول تجربة الموت عند جبران خليل جبران.