قبل أن يسارع الأمين العام للأمم المتحدة الى تعيين الديبلوماسي النروجي غير بيدرسون بديلاً من مبعوثه الى سوريا ستيفان دوميستورا الذي سيغادر منصبه نهاية الشهر الجاري، فقد أنقذت قمّة «اسطنبول» الأخيرة دور الأمم المتحدة فيها بإعادة تأكيدها استكمال بناء اللجنة المكلّفة وضع الدستور السوري الجديد. فهل كان هذا الملف موضوع الإشكالية الوحيدة بين دمشق ودوميستورا؟
 

تبادلت الأندية الدبلوماسية والأُممية عشرات التقارير عن العوائق التي رسمت سقوفاً للعلاقات الواجب قيامها بين المنظمات الأممية المختلفة والمسؤولين السوريين الى حدود تردّيها في بعض المجالات، خصوصاً تلك المعنية بالشؤون الإجتماعية والإنسانية منها كما السياسية.

وبالغ معدّ أحد التقارير في توصيفه الإجراءات السورية الصعبة والمعقدة الى حدودٍ تهدّد المهمات التي وُجدت لأجلِها هذه المنظمات في الأراضي السورية، خصوصاً عندما غاص في توصيف العوائق التي زادت من حجم المخاطر المحيطة بعملها وفرقها من الموظفين الأمميّين الأجانب منهم والعاملين السوريين فيها الى حدود انتفاء دورها. فالسلطات السورية حدّت من حركتهم ومنعتهم من دخول كثير من المناطق بلا إذن مسبَق تتحكّم به السلطات الأمنية والمخابراتية السورية دون غيرها وتخضع لتقديراتهم الأمنية والسياسية واللوجستية.

والى هذه التقارير بما سجّلته من ملاحظات سلبية جاءت مداخلات دوميستورا لدى مراجعته الدول الراعية العملية السلمية الجارية في سوريا ولدى مرجعياته الأُممية لتزيد في الطين بلة. فقد أمضى دوميستورا الى الأمس القريب نحو أربع سنوات في دمشق إذ عُيّن في 11 تموز 2014 بعد اسابيع على استقالة سلفه الديبلوماسي الجزائري الأخضر الإبراهيمي بعد انهيار جهوده في جولتين من المفاوضات فانتهاءً بالازمة السورية.

وكل ذلك جرى على وقع الانقسام الذي كان قائماً بين الحلف الدولي ضد الإرهاب الذي تتزعّمه الولايات المتحدة الأميركية ومعها 40 دولة في مواجهة الحلف الروسي ـ الإيراني الذي انعكس على عمل مجلس الأمن المنقسم على نفسه إزاء الأزمة السورية للأسباب عينها.

على هذه الخلفيات قرأ المطّلعون على هذه التقارير حجم معاناة دوميستورا وحجم ما يتمتع به من صبر لم يسجَّل لمَن سبقوه من نظرائه الدوليين الى المهمة عينها.

فمَن سبقه اليها سواء كان الإبراهيمي او الأمين العام السابق للأمم المتحدة المرحوم كوفي انان أو السوداني اللواء مصطفى الدابي الذي جمع صفتي مبعوث الجامعة العربية والأمم المتحدة معاً، لم يتحمّلوا ما تحمّله دوميستورا على رغم أنّ بعضاً من مهمات دوميستورا كانت سهلة قياساً على ما استعادته مناطق كبرى من «سوريا المفيدة» من استقرارها الأمني في الفترة الأخيرة.

ومن هذه المعطيات بالذات، يقول التقرير إنّ العمليات العسكرية التي شهدتها سوريا على امتدادات مساحتها الجغرافية كانت تبرّر بعضاً من معاناة الموفدين الدوليّين، وكانت العمليات العسكرية قد رسمت الخطوط الحمر أمامهم فتعطّلت كل المبادرات التي أطلقوها.

والى هذه العمليات العسكرية فقد أدّت التجاذبات بين التحالفات الدولية المتنازعة على الأراضي السورية الى ولادة مرجعيّتين واحدة تجلّت بسلسلة مؤتمرات جنيف وزميلاتها من جهة وآستانة من جهة أخرى، فضاعت الجهود الدولية برمّتها أحيانا بين المرجعيّتين.

وإن لم تكن الأسباب التي أعاقت مهمّة الموفدين الأُممين والمؤسسات الأُممية كلها عسكرية، فإنّ ما زاد من صعوبة تحقيقها حجم الخلافات الدولية التي جعلت من معظم الأراضي السورية مطحنةً للمدنيين نتيجة وجود مئات الجبهات الملتهبة حول دمشق ومختلف أنحاء البلاد.

وزادت المصاعب الإنسانية والإجتماعية والإغاثية من صعوبة المهمة بوجود أكثر من أربعة ملايين نازح سوري داخل الأراضي السورية، وأكثر منهم عدداً بقليل في دول الجوار السوري ودول الشتات.

على هذه الخلفيات، يضيف التقرير، أنّ دوميستورا كان مستعدّاً لتجاوز تلك المرحلة بمصاعبها الأمنية والعسكرية كافة لولا الموقف السوري المتشدّد من مصير الدستور السوري الجديد الذي يوزّع السلطات مجدداً ويعيد النظر في شكل النظام استعداداً للحلّ السياسي مهما طال انتظاره.

ويحدّد التقرير الموقف السوري الجديد الذي تجلّى برفض تسمية ممثليه الى اللجنة الدستورية واعتراضه على دخول سوريّين آخرين يمثلون المعارضة بعد الجهود التي بذلتها موسكو والسعودية وطهران وأنقرة لتكوين المعارضة السورية المعتدلة. وما زاد دوميستورا توجّهاً الى الاستقالة فهمه للمطالب السورية الجديدة ودعوتها الى نسيان ما يُسمى «الدستور الجديد»، فبناؤُه لا يتم إلّا على قواعد السيادة السورية وبقرار سلطة ينتجها الشعب السوري وحده.

وهو ما أبلغت وزراة الخارجية السورية دوميستورا متماهية بالإنتصارات التي أعادت الى النظام معظم ما خسره من الأراضي السورية الخصبة والآهلة بالسكان غير آبهة بما أنتجته المداخلات الروسية والأُممية من تعديلات عليه في أروقة الأمم المتحدة وكواليس مؤتمرات أستانة وسوتشي وقمم طهران وأنقرة وموسكو.

عند هذه المحطة يختم التقرير أنّ دوميستورا الذي رفع الصوت عالياً لحماية الإنجاز الدستوري لم يلقَ تجاوباً من أحد. وهي فترة تزامنت وقراره بالإستقالة من مهماته منتصف الشهر الماضي. وهو على ما يبدو لم يكن يدرك أنّ «قمة اسطنبول» التي جمعت رؤساء تركيا وروسيا وفرنسا وألمانيا قبل أيام ستحيي البحث في الدستور السوري الجديد.

وتجدر الإشارة الى أنّ قرار قمّة اسطنبول الذي أحيا مهمة المبعوث الأممي السياسية والدستورية بات رهناً بما سيلقاه المبعوث الجديد غير بيدرسون من تعاون سوري أو عدمه. فهو تلقّى نصيحة سورية وجّهها اليه نائب وزير الخارجية السورية فيصل المقداد بعدم تكرار أخطاء مَن سبقه الى هذه المهمة و«إنّ سوريا، وكما تعاونت مع المبعوثين الخاصّين السابقين، ستتعاون مع بيدرسون، بشرط أن يبتعد عن أساليب مَن سبقه»، وهو أمر لا يبشّر بالخير.

فالديبلوماسي الجديد يعرف كثيراً من خفايا الوضع في سوريا ولبنان والمنطقة من خلال مهماته السابقة في المنطقة حيث عمل منسّقاً أممياً خاصاً في لبنان ومبعوثاً شخصياً للأمين العام إلى جنوبه ما بين العام 2005 و 2008 وممثلاً دائماً لبلاده لدى الأمم المتحدة منذ 2012 وحتى 2017 ويعرف كثيراً عن الأزمة السورية وخفاياها.