مع بدء تطبيق العقوبات الأميركية على إيران دخلت المنطقة مرحلة جديدة. هل تثبت إيران قدرتها على التكيف مع هذه المرحلة فتُقْدمُ على النقلة النوعية المطلوبة، بأن تكون دولة طبيعية.
 

مع بدء تطبيق العقوبات الأميركية على إيران، استكمل الرئيس دونالد ترامب عملية تمزيق الاتفاق في شأن ملفّها النووي، وهو الملفّ الذي أمكن التوصل إليه صيف العام 2015 في عهد باراك أوباما. ما فعله ترامب ليس مجرد نزوة عابرة لرئيس أميركي أراد الظهور في مظهر المختلف عن سلفه.

هناك رغبة أميركية واضحة في تصحيح سلسلة من الأخطاء حصلت منذ العام 1979 عندما استطاع آية الله الخميني الاستيلاء على الثورة الشعبية التي أطاحت الشاه وبناء نظام “الوليّ الفقيه”.

ارتكبت الإدارات الأميركية مجموعة كبيرة من الأخطاء منذ قيام نظام جديد في إيران، وذلك بعدما سكت الرئيس جيمي كارتر عن احتجاز السلطات الإيرانية دبلوماسيي السفارة الأميركية في طهران طوال 444 يوما ابتداء من تشرين الثاني – نوفمبر 1979. سمح احتجاز الرهائن لإيران بلعب دور في إيصال رونالد ريغان إلى الرئاسة، ومنع كارتر من الحصول على ولاية ثانية. كان كافيا أن ترفض إيران إطلاق رهائن السفارة الأميركية قبل موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني – نوفمبر 1980 حتّى يسقط كارتر أمام ريغان. تبيّن لاحقا أن صفقة عُقدت بين الرئيس الأميركي الجديد ممثلا بوليم كيسي (أصبح لاحقا مديرا لـ”سي. آي.إي”) وممثلي النظام الإيراني. أدّت الصفقة إلى إسقاط كارتر الذي كان كلّ شيء باستثناء رئيس لدولة عظمى اسمها الولايات المتحدة الأميركية.

من الواضح أن “الجمهورية الإسلامية” في إيران استوعبت جيدا معنى تمزيق الاتفاق النووي الذي وقعته مع مجموعة البلدان الخمسة زائدا واحدا، أي الدول الخمس ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن، مضافة إليها ألمانيا. هذا ما دفع إيران إلى الاستعانة بسلطنة عُمان مجددا لعلها تستطيع ترتيب اتفاق ما مع إسرائيل.

يمتلك أركان النظام في إيران ما يكفي من الدهاء لمعرفة أنّه لم يعد هناك من مجال للتلاعب على الإدارة الأميركية من جهة، وأنّ أي صفقة جديدة معها لا يمكن إلّا أن تمرّ باسترضاء إسرائيل من جهة أخرى. هذا ما يفسّر زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو لمسقط ولقاءاته مع السلطان قابوس.

ما لا يمكن تجاهله أن سلطنة عُمان لعبت دورا أساسيا بين إدارة باراك أوباما وإيران في مرحلة ما قبل التوصل إلى اتفاق في شأن الملفّ النووي. لدى السلطنة، التي كانت مرتبطة بعلاقات مميزّة مع نظام الشاه، سياسة ثابتة تقوم على التقارب مع إيران، بغض النظر عن طبيعة النظام فيها. لو لم تكن زيارة نتانياهو لمسقط تمت بعلم إيران، حتّى لا نقول بتشجيع منها، لما كان “محور الممانعة” اعتمد سياسة صمت القبور.

أدركت إيران، باكرا، جدّية إدارة ترامب الذي وصف قبل وصوله إلى البيت الأبيض الاتفاق النووي مع إيران بأنّه “الأسوأ” في تاريخ الاتفاقات التي عقدتها أميركا مع أي دولة في العالم.

في النهاية، وضعت الإدارة الأميركية نظام “الجمهورية الإسلامية” في إيران أمام امتحان لم يسبق لها أن مرّت بشبيه له. هل في استطاعة إيران أن تكون دولة “طبيعية” على حد تعبير وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، أم لا؟

ما حدث أن المناورات الإيرانية لم تعد تنطلي على أحد. هناك إدارة فتحت كلّ الملفات. من احتجاز دبلوماسيي السفارة الأميركية في طهران، إلى الملفّ النووي، مرورا بتفجير إيران للسفارة الأميركية في بيروت في نيسان – أبريل من العام 1983، وتفجير مقر قيادة المارينز قرب مطار بيروت في تشرين الأوّل – أكتوبر من تلك السنة. قُتل في التفجير الذي استهدف إخراج الولايات المتحدة من لبنان 241 عسكريا أميركيا. يعتبر ذلك من بين أسوأ ما تعرض له الجيش الأميركي منذ انتهاء حرب فيتنام في العام 1975.

ترتدي العقوبات الأميركية الجديدة المفروضة على إيران والتي بُوشر تطبيقها أهمية استثنائية لسبب واحد على الأقلّ. يمثل هذا السبب في أن الولايات المتحدة قررت الضغط على نقطة الضعف الأساسية في إيران. هذه النقطة هي الاقتصاد.

صحيح أن النظام الذي فرضه الخميني على الإيرانيين كان نظاما متخلفا بكل المقاييس، خصوصا أنّه سمح لرجال الدين بالتعاطي في الشأن العام وكلّ ما له علاقة بالسياسة، لكن الصحيح أيضا أنّ الفشل الإيراني منذ العام 1979 كان فشلا اقتصاديا قبل أيّ شيء آخر. وعد مؤسس “الجمهورية الإسلامية” بوصول إيران إلى مرحلة لا يعود فيها اقتصادها تحت رحمة الغاز والنفط. إذا بها في السنة 2018 تحت رحمة الغاز والنفط أكثر من أيّ وقت.

ضغطت الإدارة الأميركية حيث يجب أن تضغط في وقت تمارس إيران سياسة لا يستطيع اقتصادها تحمّل أعباءها. حلّ بإيران ما حل بالاتحاد السوفياتي في ثمانينات القرن الماضي. تصرّف الاتحاد السوفياتي تصرّف الدولة الامبريالية، غير مدرك أن ليس في الإمكان بناء قوّة عسكرية كبيرة على ساقين ضعيفتين تمثلان الاقتصاد.

كلّ ما في الأمر، أن إيران راحت تستنجد بأوروبا. تعرف إيران قبل غيرها حدود ما تستطيع القارة العجوز أن تفعله لها. أكثر من ذلك، إذا كان اتكالها على روسيا، فإن روسيا تعاني من نوع المشاكل التي تعاني منها. مع فارق أن روسيا لا تعتمد في سياساتها الخارجية على الاستثمار في إثارة الغرائز المذهبية.

تدفع إيران هذه الأيّام ثمن سياسة تقوم على الهرب المستمرّ إلى الخارج. اعتمدت في كلّ وقت على أن الولايات المتحدة لن تلاحقها على ما ارتكبته منذ العام 1979. على العكس من ذلك، كانت إيران المستفيد الأوّل من إرباكات السياسة الأميركية. كان نسف مقر المارينز قرب مطار بيروت كافيا كي تدير الولايات المتحدة ظهرها للبنان. وكان خطف الأميركيين والأوروبيين في لبنان كافيا لتعقد إدارة ريغان صفقات معها، بما في ذلك إيصال أسلحة وقطع غيار إسرائيلية إلى طهران إبّان الحرب مع العراق بين 1980 و1988. استفادت إيران من كلّ ما يدور في المنطقة، بما في ذلك الغزو العراقي للكويت في 1990 والحرب الأميركية على نظام صدّام حسين في العام 2003.

كانت إيران المنتصر الوحيد من الحرب الأميركية على العراق الذي تحوّل إلى بقرة حلوب بالنسبة إليها، أقلّه حتّى العام 2014 إبان حكم نوري المالكي. مع بدء تطبيق العقوبات الأميركية على إيران، دخلت المنطقة كلّها مرحلة جديدة. هل تثبت إيران قدرتها على التكيّف مع هذه المرحلة فتُقْدمُ على النقلة النوعية المطلوبة. تختزل هذه النقلة النوعية القدرة على أن تكون إيران دولة طبيعية تهتمّ بأمور شعبها، قبل أن تسعى إلى وضع لبنان تحت وصايتها والتمدد في سوريا والعراق وإقامة إمارة للحوثيين في اليمن.

هذا هو التحدي الحقيقي أمام النظام الإيراني الذي يرفض الاعتراف بأن معظم الإيرانيين يحبّون الولايات المتحدة، بل يعشقونها وأن لا أحد منهم يصدّق حقيقة شعار “الموت لأميركا”. كل إيراني يعرف في قرارة نفسه أنّ هذا الشعار للاستهلاك الداخلي، والهدف منه بيع الأوهام لبعض العرب من الذين يريدون القضاء على النسيج الاجتماعي في البلدان التي يقيمون فيها. ساعة الحقيقة حلّت. ما الذي ستفعله “الجمهورية الإسلامية”؟