أحيا ارتفاع درجة الحرارة السياسية في إيطاليا، البلاد الأكثر تعقيداً في القطاع المصرفي الأوروبي، المخاوف من فشل السلطات المصرفية الأوروبية وتحديداً البنك المركزي الأوروبي في توحيد النظام المصرفي المتباين في المنطقة.
قاربت ديون إيطاليا للبنك المركزي الأوروبي الـ500 بليون دولار في ظلّ عدم توازن متوقّع مع الحكومة الجديدة.
 
ولعلّ الاضطرابات السياسية التي تحدث في اوروبا بين الحين والآخر تذكّر المستثمرين أنّ البنوك الأوروبية لم تُحرز أرباحاً في الفترة الأخيرة، ومعظم الناس قلقون بشأن تداعيات الـBrexit. ويعتقد الخبراء الماليون أنّ أزمةً مصرفية في إيطاليا تمثل خطراً أكبر على منطقة اليورو.
 
لذلك، ورغم اشتعال العالم من سوريا الى كوريا الشمالية فإنّ الأزمة العالمية المقبلة ستأتي من ثالث أكبر دولة في اوروبا وثامن اقتصاد في العالم مع حكومة جديدة تحاول جاهدة تثبيتَ سياستها الشعبوية ودفع الإصلاح المالي.
 
ولمَن يتابع الحركة الاقتصادية العالمية يرى أنّ أوروبا شهدت هذه المسرحية من قبل ويبدو أنّ التاريخ يعيد نفسه لا سيما وأنّ ما حدث في العام 2015 في اليونان مع Tsipras ومحاولة العودة الى الوراء وتهديد الوحدة الأوروبية بل Grexit وبعد ما تراجعت اليونان.
 
وعلى مقياس تدفقات رأس المال في منطقة اليورو، فإنّ الإشارات تدل ليس فقط على زياده ديون إيطاليا، انما الفرق بين الصادرات والواردات العابرة للحدود سيصبح 450 مليار يورو، وعلى تزايد فيما تسجّل ألمانيا فائضاً قد يبلغ تقريباً ١ تريليون يورو، حسب بيانات المركزي الأوروبي. لذلك قد تطفو مسألة التماسك في منطقه اليورو على السطح مرة اخرى.
 
وترى البنوك المركزية أنّ هذه الاختلالات طبيعية نتيجة ضخ ٢.٤ تريليون يورو من التيسير الكمّي، حيث بدأت المصارف المركزية عملية شراء السندات من المستثمرين.
 
ويقول Marchel Alexandrovich كبار الاقتصاديين في Jeffries إنّ التزايد الكبير في الهوّة بين دول المنطقة فاقم عملية التيسير الكمّي.
 
أضاف أنه من الصعب معرفة مقدارها وما سبّبته السياسية الإيطالية. وحسبه دائماً فإنه طالما بقيت منطقة اليورو واحدة موحّدة فإنّ هذه الأمور تبقى مسألة حسابية فقط لا غير.
 
منطقياً هذا صحيح، أما اقتصادياً فإنها أمور خطيرة جداً تعرّض المنطقة من جديد الى خطر التفكّك، وتغذّي المخاوف أزمة ديون اخرى على غرار ما حدث عندما قامت اليونان بمحاولات لبيع سنداتها للمستثمرين الاجانب ولم تُفلح واضطرت إلى طلب معونة المركزي الأوروبي وصندوق النقد الدولي.
 
وكما سبق وذكرنا يبدو أنّ الامور تعيد نفسها والحالة التي قضيناها مع اليونان وهي على شفير الهاوية ومازالت لغاية الآن تعاني من ركود اقتصادي رغم خطط التقشف التي وضعتها المفوّضية، تعيد نفسها مع إيطاليا. مع العلم أنّ إيطاليا، هي ثالث اكبر اقتصاد في المنطقة، الامر الذي يغذّي المخاوف كونها تشكّل حوالى 15 بالمئة من اجمالي اقتصاد منطقة اليورو بينما اليونان لا تشكل سوى 2 بالمئة منه. لكن من المعلوم أنّ مشروع موازنة 2019 تحدّى قواعد اللعبة في اوروبا وقد تؤدّي الى زيادة الإنفاق ما يعني زيادة ديون البلاد.
 
والسؤال الذي يفرض نفسه اليوم هو ما إذا كانت سياسة الإنفاق هذه على الطريقة الكينزية تساعد في تسريع النموّ في منطقة مازالت تترنّح نتيجة عواقب الأزمة المالية العالمية. علماً أنّ العملية العكسية أي التقشّف وزيادة الضرائب كما في التجربة اليونانية، لم تأتِ بحلول مرضية لا لصندوق النقد الدولي ولا لأوروبا ولا لليونان.
 
لذلك قد لا تكون تداعيات الـBrexit والقلق الذي يولده الأهم، بل يعتقد الخبراء أنّ أزمة مصرفية في إيطاليا كما سبق وذكرنا تشكّل خطراً أكبر على منطقة اليورو.
 
وقد يكون ظهور هذه الشعبوية غريباً مبدئياً في إيطاليا، ومَن كان يصدّق انّ هذه المجموعة يمكن أن تصبح حزباً سياسياً في إيطاليا، وكما يقول المثل It just could not happen till it happened وهذا امر بديهي لا سيما وانّ تعاطي ألمانيا مع الموضوع وفي ظلّ الإصلاحات المزمع اجراؤها والتي يمكن أن تشكّل عبئاً على موازنة الدولة بما يزيد عن 125 مليار يورو اضافية في السنة- ولهذا قد يكون السؤال الاهم ما اذا كانت الحكومة الإيطالية باستطاعتها تحمّل ذلك.
 
الامر المثير للجدل هو أنّ إيطاليا استطاعت العام الماضي إنقاذ Monte de Paschi di Sienna على حساب دافعي الضرائب الإيطالية وضد رغبة المؤسسة المصرفية في فرانكفورت. وأخيراً، اصبحت الحالة المالية الإيطالية أكثرَ حساسية، وإذا ما بقيت الأسعار تحت الضغوط السياسية والمالية داخل إيطاليا وفي محيطها الأوروبي سوف تضطر المصارف الإيطالية لبيع سنداتها بأسعار اقل، ومع خسائر ضخمة لضمان السيولة.
 
كذلك ستضطر للامتثال الى نسبة الدين على رأس المال، بما قد يضطرها الى زيادة اسعار الفوائد ومنح قروض اقل الامر الذي يعني أننا سائرون الى حالة ركود اقتصادية قد تكون شبيهة الى حدٍّ بعيد بالتي تحدث حالياً في اليونان.
 
ويزيد الامر سوءاً الطريقة التي يقود فيها المركزي الأوروبي ومن ورائه ألمانيا منطقة وقواعد النظام المصرفي وهشاشة وضعية العديد من المصارف الإيطالية وغيرها، اضف الى ذلك الوضع السياسي المتأرجح والصورة غير الواضحة في توجّهات المركزي الأوروبي والذي على ما يبدو سوف يفي بمخططه، وإيقاف عملية التيسير الكمّي الأمر الذي يعني حتماً زيادة في اسعار الفوائد.
 
كل هذا يبقى رهن ما سيحدث في إيطاليا، واذا ما كانت ألمانيا ومعها المركزي الاوروبي مستعدة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في إيطاليا. وقد يكون من السابق لأوانه القول إنّ المصارف الإيطالية مفلسة ولكنّ النظام المالي ككل بحاجة الى مساعدة. أضف الى ذلك الخوف من أن تتصرّف المصارف بتهوّر لأنهم يعلمون أنه سوف يتمّ إنقاذُهم اذا ما تهدّد الاستقرار المالي الأوروبي ووصل الى الإفلاس.
 
لذلك اذا ما تعمّقنا في الامور نرى أنّ قضية إيطاليا ومصارفها قد يكون لها تأثير أكبر بكثير من الـBrexit وسوف ينسحب ذلك على منطقة اليورو بالكامل في ظلّ إصرار على القواعد المالية والنقدية، وفي غياب ادوات تلجم حال الفلتان الاقتصادي السائد في دول اليورو وعدم الالتزام بقواعد اللعبة، الأمر الذي يزيد المسأله خطورة ويعيد أوروبا ومصارفها سنين الى الوراء.