لم يكن للطباعة في منطقتنا نفس الدور الذي لعبته في الغرب. هذه المنطقة لا تزال تعاني من الأمية الألفبائية التي اخترعها الفينيقيون أبناء المنطقة. والأمية تتفاقم مع الحروب والتهجير.

انتقلت منطقتنا من الثقافة الشفهية إلى عالم الصورة دون المرور بالألفبائية ومرحلة القراءة الصامتة وتأثيرها على شخصية الفرد؛ لذا تختلف مجتمعاتنا عن الغرب في أنها لم تتحول إلى الفردانية الغالبة، بل لا تزال مجتمعات مختلطة تجمع ما بين أفراد وجماعات: سواء دينية أم إثنية أم عشائرية أم لغوية مع تنويعات مختلطة.

هذه المجتمعات تتعرض الآن للثورة الجديدة من التكنولوجيا الرقمية التي حملت معها قفزة نوعية على صعيد حرية حركة الأفكار والمعلومات والأخبار، بحيث حققت العولمة الفعلية التي نظّر لها ماك لوهان. أصبح العالم قرية صغيرة جعلت من حقوق الإنسان ومبادئ العدالة القانونية وصيانة الحريات العامة، من بديهيات الوجود المعاصر. وبعد تهاوي الجدران أصبح من المستحيل تغييب الصورة أو إخفاء المعلومة.

يجب أن نمرّن فكرنا لكي يترجم الحروف الرمزية التي نراها للغة التي نفهمها

يطرح ذلك على مجتمعاتنا مجموعة تحديات على صعيد حرية التعبير وعلى صعيد الأنظمة السياسية وعلى الصحافة نفسها، التي كما نعلم كانت في الغالب بوقا للأنظمة ولسان حالها.

فهل ستموت الصحافة الورقية؟ سمعنا في السابق عن موت السينما أو موت الكتاب أو الإذاعة؛ لكن كل ذلك لم يتحقق حتى الآن. فالقديم لا يزول تماما، والتطور على الكرة الأرضية برهن على تعايش عدة أنساق مع بعضها البعض في نفس الوقت؛ أضف إلى ذلك أن القديم يترك آثاره بطرق شتى. وكما نعلم فهناك دائما مناطق تحتفظ بالعادات والتقاليد السابقة ولو على درجات ونسب متفاوتة.

لا شك أن تحولات عميقة تعصف بالإعلام العربي في ظل تحديات الرقمي. وفيما يرى البعض أنه يهدد الصحافة، يرتئي البعض الآخر العكس؛ أنه يعطيها المزيد من الفرص اعتمادا على الإحصائيات التي تقول إن المحتوى العربي على الشبكة لا يشكل سوى 1 في المئة من مجموع ما تحويه، بينما تبلغ نسبة المتصفحين العرب 6 في المئة من زوار الشبكة.

هذا يعني أن الحاجة للمحتوى العربي أكبر بكثير مما كانت قبل الثورة التكنولوجية. إذاً فلدى الصحافة العربية فرصة أكبر شرط أن تواكب التحول الحاصل على مستوى حرية التعبير واحترام شروط المهنة والصدقية.

بات الإنترنت بالنسبة للكتاب مثل الأنبوب الذي يصلهم بجميع أنواع مصادر المعلومات عبر عيونهم أو آذانهم. ففوائد الإنترنت أكثر من أن تحصى.

مع تحذير بأن الكثير جدا يصبح كالقليل جدا؛ فعندما تعرض عليك آلاف النتائج للبحث عن موضوع ما، يصبح التحدي كيف ستجد بينها ما هو أهل للثقة ويجيب على أسئلتك وكيف ستستخدمه.

من هنا يطرح للنقاش دور التعليم والتربية المستقبليين ودور المعلم. فلن تعود مهمة التربية تلقين المعلومات ـ كما هي حال غالبية مجتمعاتنا حتى الآن ـ بل ستتحول نحو التفكير النقدي والإرشاد والتوجيه نحو أفضل الوسائل للاستفادة وللتمييز بين الغث والثمين.

لهذه النعمة إذن أثمان، وسبق أن أشار ماك لوهان إلى ذلك بقوله "إن الميديا ليست قناة فاترة للأنباء توصل إلينا قواعد للتفكير، لكنها تشكل أيضا سياق هذا التفكير".

كان لأحد فراعنة مصر تبصّر مذهل عندما استمع إلى الحكيم تحوت، الذي أراد أن يشرح له دور الكتابة (الهيروغلوفية) بأنها "فرع من التعلم سيحسن ذاكرة شعبك؛ إن اختراعي وصفة تخدم الذاكرة والحكمة"، لم يتأثر الملك بهذا على الإطلاق ورد قائلا: "عندما يحصل الناس على هذه القدرات، فإنها ستزرع النسيان في قلوبهم، وسيتوقفون عن تدريب ذاكرتهم لأنهم سيعتمدون على الأشياء المكتوبة ولن يعودوا قادرين على استحضار ما في ذاكرتهم من أمور. إن ما اخترعته ليس وصفة للذاكرة وإنما للنسيان".

يرى كثيرون أن الإنترنت يضعف القدرة على التركيز والتفكير. فالفكر ينتظر عبره الحصول على المعلومات بحسب الأسلوب الذي يوزعه لنا الإنترنت: كتيار من الجزيئات التي تسيل بسرعة. قبله كان الفكر يغوص في الكلمات، لكن الآن نجده يشق السطح كما يفعل متزلج الجت ـ سكي.

يتطلب الأمر بالطبع انتظار التجارب النيورولوجية والفيسيولوجية طويلة المدى لكي تتضح الصورة النهائية لكيفية تأثير الإنترنت على قدراتنا المعرفية. لكن دراسة بريطانية حديثة حول عادات البحث على الإنترنت قام بها مختصون في جامعة لندن توحي بأننا نعاني تغيرات عميقة في طريقتنا في القراءة وفي التفكير. الباحثون فحصوا آثار زائري موقعين شعبيين للبحث خلال 5 سنوات من أجل جمع معلومات عن سلوكهم؛ أحدهما يعود إلى المكتبة البريطانية والآخر لموقع تربوي وكلاهما يسمحان بالوصول إلى مقالات صحف وكتب إلكترونية ومصادر أخرى مكتوبة.

تبين أن الأشخاص المستخدمين لهذه المواقع يقومون بنشاط من نوع "كشح القشدة"، فيقفزون من مصدر إلى آخر.. ونادرا ما يعودون إلى الأول. وعموما لا يقرأون أكثر من صفحتين. أحيانا يفتحون مقالا لفترة طويلة، لكن هذا لا يعني أنهم قرأوه أو رجعوا إليه.

وخلص الباحثون إلى ما يلي: "من المؤكد أن المستخدمين لا يقرأون السطور بالطريقة التقليدية. إذ توجد إشارات على أن هناك أشكال ‘قراءة’ جديدة تظهر، وأن المستخدمين يتصفحون أفقيا بحسب العناوين ومحتويات الصفحات والملخصات للوصول إلى خلاصات سريعة".

ربما صرنا نقرأ أكثر من السبعينيات والثمانينيات حين كان التلفزيون هو الوسيط الإعلامي المفضل، بفضل الحضور الدائم للنصوص على الإنترنت وبسبب قراءتنا لرسائل الهاتف النقال. لكنه نوع مختلف من القراءة. وكما تقول عالمة النفس ماريان وولف: "نحن لسنا ما نقرأه فقط، فهويتنا تتأثر بطريقة قراءتنا أيضا".

هذا إضافة إلى ابتداع كتابة جديدة تجمع الأحرف والأرقام في اللغة العربية، وأن الجميع يملك الهاتف الذكي بمن فيهم الأميون، أو غير المتعلمين.

إن القراءة عبر الإنترنت تعطي الأولوية للفعالية والمباشرة فوق أي اعتبار. مما قد يضعف قدرتنا على القراءة المعمقة التي انبثقت عن تقنية أقدم تعود إلى اختراع المطبعة، وجعلت من قراءة الكتب الطويلة والمعقدة شيئا عاديا. وعندما نقرأ على الويب، نصبح بحسب وولف مجرد "مفككي شيفرة المعلومات".

فماذا عن الأجيال التي دخلت مباشرة هذا العالم وهذا النوع من القراءة؟

القراءة ليست مقدرة غريزية عند الكائن الإنساني كما هي اللغة. إذ يجب أن نمرّن فكرنا لكي يترجم الحروف الرمزية التي نراها للغة التي نفهمها. وتبرهن التجارب أن قراءة الإيديوغرام (كما في اللغة الصينية) تنمي دورة ذهنية مختلفة جدا عن تلك التي تستخدم في قراءة اللغة الألفبائية. وتشمل التغيرات المناطق الدماغية وصولا إلى الوظائف المعرفية الأساسية كالذاكرة والتأويل البصري والسمعي. وبالطريقة نفسها، يمكن توقع أن تكون الدوائر التي ينسجها استخدامنا للإنترنت مختلفة عن تلك التي تنسج جراء قراءاتنا للكتب والمطبوعات الأخرى.

لا بد أن الإنترنت ليس الألفبائية، وحتى لو استطاع الحلول مكان المطبعة فسوف ينتج عن ذلك شيء مختلف تماما

فوق هذا وذاك، تبين تجربة فريدريك نيتشه (1844 ـ 1900) تأثير أداة الكتابة في الفكر. فلقد اشترى في العام 1882 آلة طباعة بسبب بصره الذي صار يضعف وتعبه من التركيز طويلا على الصفحة، ما تسبب له بأوجاع متكررة في الرأس. وأجبر على الإقلال عن الكتابة، وخاف من ألا يعود باستطاعته الكتابة مطلقا. أنقذته الآلة الكاتبة عندما سيطر عليها وصار يكتب مغمضا عينيه وبواسطة أطراف أصابعه فقط. وصار بإمكان الكلمات أن تسيل من فكره مجددا على الصفحة.

لكن كان للآلة الطابعة تأثير آخر على كتاباته. لاحظ أحد أصدقائه، وهو مؤلف موسيقي، تغيرا في أسلوب كتابته. فنصوصه التي كانت بالأصل مقتضبة ازدادت اقتضابا، وصار برقيا: "ربما بسبب الأداة الجديدة سوف تحصل على لغة جديدة"، كتب له صديقه الموسيقي مسجلا أنه بحسب تجربته يجد أن أفكاره حول الموسيقى ولغته غالبا ما تتعلق بنوعية الورق والقلم الذي يستخدمهما. "معك حق"، أجابه نيتشه مضيفا: "أدوات كتابتنا تشارك في تفتح أفكارنا". ولقد سجل فريدريك كيتلر، الألماني المختص بالميديا، أن أسلوب نيتشه تغير مع استخدامه الآلة من الحجة والبرهان إلى الحكمة، ومن الأفكار إلى اللعب على الكلمات، ومن البلاغة إلى الأسلوب التلغرافي.

في الخلاصة، غير ظهور الساعة من تعامل البشر مع الوقت، كذلك فعلت المطبعة والهاتف والآلة الحاسبة والراديو والتلفزيون.

والإنترنت "سيستم" للأنباء له قدرة مذهلة، يجمع معظم هذه الوسائل التقنية الفكرية. لقد أصبح مخططنا وساعتنا ومطبعتنا وآلة الكتابة والحاسبة والتلفون والراديو والتلفزيون.

لا بد أن الإنترنت ليس الألفبائية، وحتى لو استطاع الحلول مكان المطبعة فسوف ينتج عن ذلك شيء مختلف تماما.

الإنترنت هو أكثر من أداة جديدة للاتصال. إنه أداة تحول العالم وهذا التحول لم ينته بعد.