يتحوّلُ إصدار بعضِ الأعمال الأدبية إلى حدث ثقافي، ويتمُّ التعامل مع المنجز الإبداعي بإعتباره مؤشّراً لمرحلة تتطلّبُ حساسية مُختلفة في مُقاربة المُعطيات الجديدة وتحدّيات الواقع. ومن المَعلوم أنَّ النصوص الأدبية تُعبّرُ عن هواجس الذات الكاتبة وما يتّصفُ به العصر والبيئة من الخصوصية في آن واحد.
 

عندما صدرت رواية «صباح الخير أيها الحزن» سنة 1954 كانت صاحبتها فرانسواز ساغان في التاسعة عشرة من عمرها. إذ أثار هذا العملُ الروائي جدلاً صاخباً في الوسط الثقافي وأصبحت الشابةُ التي حلّت على باريس أيقونةً أدبية.

مُغامرة

أوردَ علي حسين في كتابه «سؤال الحب» ما خطّته فراسواز ساغان على أوراقها المدرسية «أنا لا أنتمي إلى هذا العالم المتزمّت بالمرّة، لا أحب أن أكون إبنةَ عائلة غنية»، لذا هي تُغامر بِمُلاحقة مصيرها في مكان آخر حيث تندمجُ في أجواءِ مدينة باريس وتجدُ ضالّتها في إرث الأدباء الفرنسيين أمثال أندريه جيد، مارسيل بروست، وبول إيلوار. هنا تستلهمُ عنوان روايتها الأولى من قصيدة بول إيلوار، فالبتالي تحجزُ مكانها في صفوف المبدعين بعدما تحرّرت من العالم الذي سئمتْ من أجوائه الرتيبة. كتبتْ فراسواز ساغان عدداً من الروايات والمسرحيات وسيناريوهات الأفلام، غير أنّ رواية «صباح الخير أيها الحزن» -صدرت من دار المدى أخيراً بترجمة جديدة للشاعرة رجاء الطالبي- رسّخت حضور الروائية الفرنسية. إذ نُقلت أحداث باكورتها الروائية إلى فيلم سينمائي.

تدور القصة حول حياة فتاة بلغت السابعة عشر للتو تعيشُ مع والدها الأرمل وهو في العقد الرابع من عمره يتمتّع بالوسامة وذلك ما يزيدُ من حظوظه للنجاح في تواصله مع النساء. تصحبُ ليزا وهي فتاة فاتنة ريمون وإبنته في رحلةٍ صيفية إلى شاطئ البحر المتوسط، ويُصبحُ هذا الموقعُ مسرَحاً لأحداث الرواية التي تسردها الإبنة سيسيل بضمير المُتكلم، إذاً فإنَّ الشخصية الأساسية مُوكَلٌ إليها بوظيفة رواية القصة وتنسيق أجزائها كما أنَّ المقاطع الحوارية مسبوكةُ في خطابِ الساردة. ويتابعُ القارئ وقائعَ الرواية على لسان سيسيل ولا يُصادف وجود شخصية تسترسلُ في التعبير بلهجتها أو أسلوبها، بالمُقابل تتداعى الذكريات لدى البطلة ويتموضعُ قارئُ النص المُحتمل موقعها.

رفض الوصاية

تُستهلُّ الرواية بصيغة مونولوجية توحي بحيرة الساردة في تسمية ما تشعرُ به ولا تريدُ توصيف الإحساس الذي يساورها بالحزنِ، لأنَّ الشعور بالحزن حسب رأيها جديرُ بالإحترام. ومن ثُمَّ تنتقلُ إلى المشهد الذي يجمعها بوالدها المترمّل منذ 15 عاماً وعشيقته ليزا، وما تسمعه على لسانها حول ريمون ينمُّ عن الإعجاب والتعاطف والغيرة عليه. بعدما تغادرُ سيسيل مدرسة الراهبات عائدةً إلى كنف والدها تلاحظُ سرعة إستبدال الأخير لعشيقاته، أمر تحاولُ الإبنة إستيعابه ومعايشته وإدراك حاجة الرجلِ الشديدة للنساء، لذلك لا تُمانعُ مشاركة إليزا في الرحلة ويُفهمُ من سلوك الوالد الإهتمام برأي سيسيل وإيجاده للتوازن بين رغبته الجانحة وضرورة مراعاته للإبنة، إلى هنا لا يوجدُ ما يُنبئ بكسر هذا الإطار، فإنَّ سيسيل بدورها تخوض غمار الحياة حرةً طليقةً من القيود، وتُمَثِلُ علاقتها مع سيريل صورة واضحةً لشخصية الساردة الشغوفة بالحياة وتذوّق ملذّاتها الحسّية حيثُ تردُّ عبارات وامضة تُضيءُ جانباً من شخصية سيسيل المُغامرة التي تَمضي جلّ أوقاتها بصحبة الأصدقاء في باريس ولا يكونُ إهتمامُها بالدراسة وقراءة الكُتبِ إلّا قليلاً. تبوحُ الإبنةُ بما استخلصته عن مفهوم الحب من خلال مُشاهداتها لسلسلة غراميات ريمون اللامُتناهية. وكان من المفروض وجود رؤية مُغايرة عن هذه التجربة بوصفها مصدرَ المسرّات. إلى هنا لا يوجدُ ما يخلّ إطار العمل الموغل في عمق الذات الساردة، وعلى هذه الوتيرة تتوالى فصول الرواية وقد يحسبُ المتلقّي بأنَّ السرد يناسب دون أن تكون هناك مُفاجأة. وبما أنّ بنية الحدث لا تنفصل عن الشخصية لذا تتصاعدُ بوادرُ الصراع في مساحة النص مع ظهور شخصية آن وهي عاملُ وراء تقلّب الأدوار، وبالتالي يدخلُ السردُ مستوىً جديداً.

سيناريو مُخيف

تتّكئ أركان السيناريو الذي نسجته سيسيل على طرفين، وهما ليزا وسيريل. فالأولى هي عيشقة ريمون التي لم يعدْ لها دورٌ بعد تواجد آن في حياة ريمون، أما سيريل فهو حبيبُ الإبنة التي لا ترتاح لتوصيات آن وتدخّلاتها في تفاصيل حياتها. يحدثُ الشرخُ بين الإثنتين عندما تعترضُ آن على العلاقة العميقة بين سيسيل وسيريل، وتكبرُ الهوّةُ أكثر مع إعلان ريمون للزواج بآن، ومن هنا تتولدُ فكرة سيسيل للإيقاع بريمون وإثارة غيظه من خلال لعبة يقومُ بها كل من سيريل وليزا. يمثلُ الإثنان دور العاشقين تحت مراقبة الإبنة سيسيل وما يلفتُ الإنتباه بأنَّ صاحبةَ الفكرة حين ترى ليزا مع سيريل تصبحُ نهب الشعور بالتوتّر على رغم أنَّ اللعبة من صنيعها. يتعمّدُ سيريل وليزا بوضعية العاشقين في الأماكن التي يرتادُ إليها ريمون. وعليه فإنه لا يمكن للأخير تجاهل هذه الوضعية وتبدأُ محاولات ريمون لاستعادة ليزا. هنا تتدخلُ الساردة لتقديم تفسيرها حولَ رغبة ريمون لكسب ودّ ليزا من جديد فالسرّ يكمنُ في أنّ ليزا تعادل الشباب والحيوية، ما يعني أنّ الوصول إليها يُشعر ريمون بالثقة أكثر ويقتنعُ بأنه لايزال شاباً. هذا إضافةً إلى تخلّصه من عُقدة الفقدان بعودة ليزا أكثر من ذلك أبّان الموقف عن وجود ما يسمّيه كارل يونغ بعقدة إلكترا في شخصية سيسيل التي لاتجدُ بديلاً لوالدها في رجل آخر رغم تواصلها الحسّي مع عشيقها. والملفتُ في هذا السياق أنّ سيسيل لا تُنكر إعجابها بشخصية آنْ وتميّزها في الآراء، لكن ما يحدو بالإبنة للتفكير في إقصاء غريمتها من حياة ريمون تحجيمُ شخصيّتها بجانب آن ورغبة الأخيرة في فرض وصايتها على الإبنة. يذكرُ أنَّ الساردة تمرّر مُفردات تعبرُ عن النزعة النسوية، كما هناك إحتفاء بالجسد والحبّ الحسّي وتضمُّ الرواية المشاهدَ التي تكشفُ عن الترابط بين السعادة والملذّات الحسّية. وُفّقت الكاتبة في ترتيب مادتها الروائية وتأتي النهاية مدوّرة حين تختمُ الساردةُ العمل بجملة «صباح الخير أيها الحزن»، كما يفتحُ مجالاً لتفاعل المُتلقي مع مصير آن التي يُقال بأنها توفّيت جراء حادث السير بينما تعتقدُ سيسيل أنّ مُنافستها إنتحرت بعدما رأت زوج المُستقبل مع ليزا في وضعية ساخنة.