لا يُخفى على أحد، أنّ المالية العامّة في لبنان أصبحت في حال يُرثى لها، وستفرض حكماً أسئلة جوهرية عن قدرة الدوّلة على الإستمرار في الإنفاق على الوتيرة الحالية. وإذا كنا نعتقد أنّ التقشف سيفرض نفسه في العام المُقبل، نرى أنّ التداعيات الإجتماعية وحتى الإقتصادية، ستكون مؤلمة في حال لم تُطبّق سياسة تقشّفية. هذا الأمر هو الحلّ الوحيد لإنقاذ المالية العامّة.
 

سياسة التقشّف هي عبارة عن سياسة إقتصادية تعتمد على رفع الضرائب ولجم الإنفاق العام بهدف تخفيف العجز، حيث يتمّ إعتمادها في حال كان هناك مخاطر ملاءة على المالية العامّة. هذا الوضع قد تصل اليه الحكومة في حال كان الدين العام مُرتفعاً والعجز في الموازنة مُزمناً، بطريقة أنّ خدمة الدين العام تُصبح عبئاً جدّياً على الإنفاق العام. هذا الوصف يُجسّد الحالة اللبنانية التي تتميّز، إضافة الى ذلك، بغياب الإنتظام المالي، بحكم أنّ الميزان الأوّلي لا يُغطّي خدمة الدين العام، ما يعني أنّ قسماً كبيراً من هذا العجز يتحوّل تلقائيًا إلى دين عام. وبالتالي تدخل المالية العامّة في حلقة مّفرغة، عادة ما تكون نهايتها فرض الوصاية الصندوقية على مالية الدّولة وفرض برنامج تقشّفي.

أهداف السياسة التقشّفية تتمحور حول ثلاث نقاط أساسية هي:

• أولاً- تفادي تراكم العجز في الموازنة، والذي يتحوّل تلقائياً إلى دين عام وبالتالي يزيد من خدمة الدين العام.

• ثانياً - لجم التضخّم المُرتفع والذي يرافق معظم حالات العجز المالي ويؤثّر سلباً على النمو الإقتصادي.

• ثالثاً - لجم الإستثمارات المُفرطة في بعض القطاعات وبالتالي الفقاعات.

هذه السياسة تجد جذورها في النظرية الريكاردية، التي تنصّ على أنّ زيادة الإنفاق الحكومي تؤدّي حكماً إلى رفع الضرائب وبالتالي تؤدّي إلى خفض إنفاق القطاع الخاص. هذا الأمر بالطبع يتضارب والنظرية الكينزية، والتي تنصّ على انّ التحفيز يتمّ من خلال زيادة الإنفاق الحكومي.

السيطرة على التضخّم تمرّ بحسب النظرية الإقتصادية من خلال السيطرة على كتلة الأجور في القطاعين العام والخاص، لأنّ ذلك يمثل ضغطاً على مالية الدولة، ولكن أيضاً على الشركات التي تقلّ ربحيتها وبالتالي تعمد إلى صرف الموظفين، مما يرفع نسبة البطالة. أضف إلى ذلك، انّ رفع الأجور يؤدّي إلى رفع الأسعار - أي التضخم، مما يعني الدخول في حلقة مُفرغة.

عملياً، ومن خلال السياسة التقشّفية، تعمد الحكومة إلى السيطرة على المالية العامّة وعلى ميزان المدفوعات على الأمد البعيد، ما يزيد من ثقة اللاعبين الإقتصاديين بالإقتصاد، ويلجم البطالة، ويزيد من الإستثمارات. هذا الأمر يؤدّي في النهاية إلى رفع التنافسية الإقتصادية ويزيد من فرص العمل. لكن، ولأن لكل شيء ثمنه، تؤدّي السياسة التقشّفية إلى تباطؤ النمو على الأمد القصير.

هناك أدوات تقليدية عدة لتطبيق السياسة التقشّفية، تختلف كل واحدة عن الأخرى بحسب أولويات السياسة (خفض العجز أو لجم التضخم)، وبحسب أسباب الوضع الإقتصادي (إفراط في الإنفاق، تضخّم في الكلفة، تضخّم ناتج من الخلل بين العرض والطلب...):

• أولاً - السياسة المالية والضريبية: تعمد الحكومة من خلال هذه الأدوات إلى خفض الإنفاق العام وحتى، خلق فائض عبر تقليص حجم الإنفاق الجاري في الموازنة.

• ثانياً - السياسة الضريبية: تعمد الحكومة إلى رفع الضرائب بالدرجة الأولى على الموارد غير المُستخدمة في الإقتصاد، ولكن أيضاً على النشاط الإقتصادي.

• ثالثاً - السياسة النقدية: تتعاون السلطات النقدية مع الحكومة بهدف رفع الفوائد، مما يلجم الإستثمارات ويُخفف إحتمال حصول فقاعات في بعض القطاعات. 

إستخدام هذه الأدوات يؤدّي حكماً إلى لجم التضخّم وزيادة العرض خصوصًا، في حال أنّ الشركات المحلّية لا تستطيع تلبية الطلب الداخلي، مما يؤدّي إلى تضخّم مُستورد وضرب ميزان المدفوعات. وبالتالي، فإنّ سياسة التقشّف تدفع إلى زيادة القدرة الإنتاجية للشركات بالتوازي مع لجم الأجور. بالطبع لجم الأجور سيؤثّر حكماً على الإستهلاك، لكن هذا التأثير سيكون قصير الأمد، بحكم أنّ عودة التوازن بين العرض والطلب ستدفع إلى رفع الإستهلاك تلقائياً على الأمد البعيد.

في العام 1998، طرحت حكومة الرئيس الحص في بيانها الوزاري سياسة إصلاحية للمالية العامّة. هذه السياسة أدّت كما هو متوقّع في النظرية الإقتصادية، إلى حال انكماش في الإقتصاد اللبناني في العام 1999 (التداعيات الكنيزية). إلّا أنّ الإنتقادات الواسعة التي طالت سياسة الرئيس سليم الحص، أدّت إلى إعتماد سياسة توسّعية، زاد معها الإنفاق العام بنسبة كبيرة في السنين التي تلتّ تطبيق هذه السياسة.

من البديهي القول، إنّ الوضع في العام 1998 والوضع حاليًا لا يتشابهان، أقلّه لا على الصعيد الإقتصادي ولا المالي. فالإقتصاد اللبناني اليوم يستوردّ كماً هائلاً من السلع التي تُستهلك داخليًا (32% من الناتج المحلّي الإجمالي) مما يخّلق خللاً كبيراً بين العرض والطلب. أضف إلى ذلك، إنّ نسبة التضخّم حالياً وصلت إلى عتبة الـ 7% وهو مستوى خطير نسبة إلى النمو المُسجّل (1 إلى 1.5%). 

على صعيد آخر، أخذ العجز المُزمن بالتزايد إلى حد وصوله إلى 57 مليار دولار أميركي تراكمياً منذ العام 2007 وحتى العام 2017، ليصبح الدين العام 83 مليار د.أ (مقارنة بـ 19 مليار د.أ في العام 1998). هذا الأمر يُظهر أنّ شروط السياسة التقشفية موجودة وبالتالي فإن تطبيقها أصبح إلزامياً.

هناك شروط لضمان نجاح أي سياسة تقشّفية ستقوم بها الحكومة العتيدة :

• أولاً - لا يجب على أي سياسة تقشّفية تعتمدها الحكومة أن تطال الشركات، وبالتالي لا يُمكن لها زيادة الضرائب عليها.

• ثانياً - يتوجّب على الأُسر أن تُحافظ على مستوى الإستهلاك كما هو قبل البدء بسياسة التقشّف. وهذا الأمر يفرض أيضاً عدم رفع الضرائب عليها.

• ثالثاً - يتوجّب على الحكومة وضع سياسة إقتصادية واضحة لمواكبة دينامية الإستثمارات، والتي توصل إلى خفض تلقائي لأسعار الفوائد.

من هنا، نرى أنّه لا يُمكن للحكومة أن تعمد في مقاربتها للمُشكلة إلى إعتماد الضرائب على النشاط الإقتصادي، لأنّ مفاعيلها خطيرة وتُشكّل خطراً رئيسياً على الوضع الإقتصادي. وبالتالي فإنّها مدعوة في حال إعتمدت الضرائب، إلى فرضها على الموارد غير المُستخدمة، كالحسابات المصرفية الكبيرة، الأملاك البحرية والنهرية، الشقق الشاغرة وغيرها. أيضاً يتوجّب عليها خفض إنفاقها وتحسين جباية الضرائب والرسوم والفواتير، إضافة إلى التخلّص من إدارة المرافق العامّة التي ترزح تحت عجز، مثل مؤسسة كهرباء لبنان. إنّ عدم القيام بسياسة تقشفية في ظلّ التردّي المالي، سيؤدّي إلى فرض وصاية من قِبل صندوق النقدّ الدولي، والذي سيفرض برنامجه التقشّفي المعروف، الذي ينص على ثلاث نقاط أساسية: رفع الضرائب، سحب الدعم عن كل ما هو إجتماعي وخصخصة المرافق العامّة (بيعها).