تتفاخر أوروبا بإنجاز مشروعها الأوروبي (اليورو) بعد حرب استمرت 6 سنوات (1939-1945) راح ضحيتها أكثرمن 50 مليون شخص. فقد ولد هذا المشروع بناءً على اتفاقية معاهدة "ماستريخت" في 1992. ولكن التفكير فيه كان في بداية الخمسينيات، وكان لألمانيا وفرنسا الدور الكبير في التأسيس. وتبذل كلا الدولتين حالياً جهداً كبيراً للحفاظ عليه واستمراره وتطوره. إن أكثر ما يهدد مستقبل المشروع الأوروبي صعود اليمين المتطرف الشعبوي المناهض لليورو والمؤسسات والهجرة والانفتاح والعولمة والإسلام. فقد بدأ الشعبويون في الصعود في شرق أوروبا في المجر وهنغاريا وبولندا ولم يتوقف، بل كانت المفاجأة الكبرى عندما استمر في الصعود حتى وصل إلى غرب أوروبا (بريطانيا وفرنسا وألمانيا وأخيراً إيطاليا). وهذه الدول تعتبر الثقل الأوروبي من النواحي السياسية والاقتصادية.

مناهضو المشروع الأوروبي يرون أن حقبة "مارغريت تاتشر" و"رونالد ريغان" والتي كانت في أواخر عام 1970 وبداية 1980 التي دعمت مشروع الانفتاح وتعدد الثقافات وفتح الحدود والهجرة والعولمة قد انتهت مع أدلجة السياسة بوصول السيد "ترامب" إلى البيت الأبيض وخروج بريطانيا من اليورو (البريكست) في عام 2016.

لقد كان لحزب الاستقلال البريطاني الشعبوي المعادي لأوروبا "يوكيب" دور ملحوظ عندما قام بحشد الناس للتصويت لعدم بقاء بريطانيا في اليورو، وفي الانتخابات البرلمانية الأخيرة نتج عنها ما يسمى "بالبرلمان المعلق" وهو عدم حصول أي من الأحزاب المشاركة على الأغلبية المطلقة التي تساهم في تشكيل الحكومة بمفردها. وكان للأحزاب الشعبوية وعلى رأسها حزب الاستقلال

دورهام في ذلك.

 
 
مصطلح "الشعبوية" يتكرّر مع كلّ عملية اقتراع... خمسة أسئلة لا بدّ منها
أما الانتخابات الفرنسية الرئاسية الأخيرة، وفي الجولة الثانية، فقد شهدت منافسة شرسة بين مرشحة اليمين المتطرف عن حزب الجبهة الوطنية "مارين لوبان" ومرشح الوسط عن حزب إلى الأمام (أون مارش) "إيمانويل ماكرون" في 7 مايو/أيار 2017 للفوز برئاسة الجمهورية والتي أسفرت في نهايتها عن فوز ماكرون كثامن رئيس للجمهورية الفرنسية الخامسة.

وفي ألمانيا كان لحزب البديل المتطرف والذي دخل لأول مرة منذ 1945 بعد الانتخابات البرلمانية في 1 سبتمبر/أيلول 2017 دور في عدم حصول حزب المستشارة "أنجيلا ميركل" (الاتحاد الديموقراطي المسيحي) على الأغلبية لتشكيل الحكومة الرابعة، ما دعاها إلى التحالف مع الحزب الاشتراكي الديموقراطي والحزب الاشتراكي الاجتماعي (البافاري) لتشكيل الحكومة.

إذن نحن أمام ظاهرة الناخب المحتج الذي يريد معاقبة الأحزاب القديمة والتململ حيال التباطؤ الاقتصادي والتوتر حول موضوع الهجرة والاتحاد الأوروبي والعودة إلى الدولة. وعلى ما يبدو فإن النظام الذي حكم أوروبا خلال 40 سنة الماضية بدأ في التغيّر، لكن الأخطر هو وصول حكومة شعبوية متطرفة في غرب أوروبا.

إيطاليا التي تعد ثالث قوة اقتصادية في أوروبا وأحد مؤسسي الاتحاد الأوروبي، تعيش حالياً عهد الجمهورية الثالثة بعد قيام ائتلاف بين حركتي "الليغا" بفاشيتها مع "النجوم الخمس" بشعبيتها، بعد انتخابات تشريعية في الرابع من شهر مارس/آذار الماضي، لتصبح الحكومة السابعة والستين منذ العام 1945، عندما أعلنت الجمهورية البرلمانية في إيطاليا وأول حكومة مناهضة للمؤسسات في غرب أوروبا، لتستمر لخمس سنوات مقبلة. ويعتبر وصولهم إلى رأس السلطة هزيمة تاريخية لتيار يسار الوسط الإيطالي.

فبعد مفاوضات استمرت لثلاثة أشهر، شهدت إيطاليا تشكيل الحكومة برئاسة "جوزيبي كونتي" بعد أن نال ثقة مجلس الشيوخ بحصوله على 171 صوتاً في مقابل 117 معارضاً وامتناع 25 عن التصويت. ينحدر كونتي من الجنوب الإيطالي وهو ذو خبرة سياسية قليلة رغم أنه محامٍ وأستاذ للقانون في أرقى الجامعات الأوروبية. ولم تصل الحركتان إلى تسوية إلا بعد أن أبعد رئيس الجمهورية (حيث يمنح الدستور الرئيس تعيين رئيس الوزراء ومن ثم الوزراء بناءً على اقتراحاته) الوزراء الكارهين للاتحاد الأوروبي عن حقيبة المال والاقتصاد، لكن الأخطر هو تعيين نائبين لرئيس الوزراء وهما لويجي دي مايو زعيم حركة خمس نجوم الشعبوية على وزارة التنمية الاقتصادية والعمل للوفاء بوعده الانتخابي بتقديم إعانات للعاطلين والفقراء، و"ماتيو سالفيني" زعيم رابطة الشمال المتطرفة على وزارة الداخلية لمتابعة سياسة الهجرة التي وعد بها في برنامجه الانتخابي.

ويعتمد برنامج الائتلاف الحاكم بين حركة خمس نجوم ورابطة الشمال، على سياسة النمو بدلاً من التقشف، وخفض سن التقاعد، ومكافحة الفساد، وتشديد التدابير الأمنية، والتصدي للهجرة، واعتماد دخل أساسي ثابت، وتحديد الحد الأدنى للأجور بعد إلغاء بند ينص على خروج إيطاليا من اليورو من الصيغة النهائية للبرنامج، والانفتاح على شرق أوروبا والتعاون مع روسيا، ورفع العقوبات عنها، وهذا ما يخيف أميركا وحلف الأطلسي.

تبلغ ديون إيطاليا 1900 مليار يورو وهو ما يعادل 120% من إجمالي الناتج الداخلي، وعدد المهاجرين الذين وصلوا إليها منذ 2013 يبلغ 700 ألف مهاجر، ويمكن أن تنضم إلى دول تحالف " فيسغراد" (التشيك والمجر وبولندا وسلوفاكيا) الرافضة لاتفاقية "دبلن" المتعلقة بطالبي اللجوء وإلزامية إعادة توزيع المهاجرين في الدول الأعضاء للاتحاد الأوروبي، ودراسة وتقييم إجراءات طالبي اللجوء. وإن لم تلتزم إيطاليا بتعهداتها والتزاماتها السابقة، فربما تواجه إجراءات ضدها في محكمة العدل الأوروبية، إذا ما أقدمت على انتهاك حقوق الإنسان.

فإذا كانت الهجرة واللجوء سببين من أسباب صعود اليمين المتطرف الشعبوي في أوروبا، فمن المؤكد أن الاتفاق التركي الروسي في "سوتشي" بشأن إدلب قد خفف من الضغوط على الدول الأوربية في موضوع الهجرة. فميركل المتهمة بتسهيل استقبال اللاجئين، والذي أثر على شعبيتها في الانتخابات الأخيرة ؛ حيث كانت زيارة السيد أردوغان والاستقبال رفيع المستوى من قبل الرئيس الألماني "شتانماير" والمستشارة "ميركل"، ومباركة ألمانيا وفرنسا للاتفاق التركي الروسي بشأن إدلب، والقمة الرباعية التي سوف تعقد قريباً بين ألمانيا وفرنسا وتركيا وروسيا، والدعم الذي تلقته تركيا من ألمانيا بعد العقوبات الأميركية في ظل أزمتها المالية بعد سجال طويل بينهما عندما منعت ألمانيا مهرجاناً انتخابياً لأردوغان واستقبلت "برلين" أشخاصاً محسوبين على الكيان الموازي وأعضاء من حزب العمال الكردستاني، كل ذلك أدى إلى تخفيف الضغوط على الحكومة الألمانية، واعتبر مؤشراً إيجابياً على تحسّن وتطوّر العلاقات بين ألمانيا وتركيا وخصوصاً في ملف اللاجئين، وبالإضافة إلى عودة أوروبا إلى الملف السوري عبر البوابة التركية، بعد التوترات الأخيرة بين أميركا وأوروبا وخصوصاً ملف أمن واستقرار أوروبا والتي ستشهد في الفترة المقبلة عودة المقاتلين إلى أوروبا بعد المصالحات والتسويات في منطقة الشرق الأوسط.

 

خالد الربيع