قد يعاند اللبنانيون طويلا في الإفراج عن حكومتهم طالما أن أمر ذلك كان متاحا، لكن حين يشتعل الضوء الأحمر، ييسر اللبنانيون بحنان وود عطوف أضواء خضراء لولادة حكومتهم، ويستعدون للإصغاء بحرص لما تهمس به العواصم البعيدة.
 

ستفرجُ بيروت عن حكومتها الجديدة. سيُجمعُ أهل الحكم على تقديم الأمر على أنه انتصار لهم جميعا في سعيهم الدؤوب خلال الأشهر الأخيرة للمطالبة باحترام نتائج الانتخابات والاتساق مع ما قيل إنه معاييرها والانحناء لهيبة الأحجام وعدالة الحصص. يعرف اللبنانيون أبجدية خصبة لتدوير الزوايا والخروج دائما بالانتصار الأزلي، فلن يعدموا سبيلا للتفاخر بإنجازهم الحكومي الجديد، لكن المحصلة الأكيدة أن لبنان، وحتى إشعار آخر، مازال يخضع لمزاج الخارج وإراداته، فإذا ما أراد حربا أهلية فله في لبنان ذلك، وإذا ما أراد إنهاءها فله في “الطائف” ملاذا، وإذا ما أراد حجب أو ولادة حكومة فله في بيروت ثمار الأمر. وعليه فلا بأس أن يتعلم اللبنانيون، مرة أخرى، حقيقة مقاسهم وواقع حجمهم في المشهد الدولي الكبير.

صدع الجدل رؤوس اللبنانيين حول عقد متعددة الاتجاهات حالت دون الولادة المنتظرة. جرى النفخ بعقدة سنّية يروم حزب الله من خلالها توزير سنّة موالين له يعارضون تيار المستقبل بزعامة سعد الحريري، ويسعون إلى منافسته على تمثيل السنّة في البلد. تم تسعير عقدة مسيحية يروم حزب الله من خلالها تضخيم حصة حليفه في بعبدا رئيس الجمهورية ميشال عون، مضافة إلى حصة حزبه، التيار الوطني الحر برئاسة صهره جبران باسيل. تم اختلاق عقدة درزية يروم حزب الله من خلالها فرض حصة ترضي حليفه طلال أرسلان المقرب جدا من نظام دمشق. وداخل تلك العقد كانت المطالب تأتي بالمفرق من قبل باعة التفصيل لتصبّ لصالح بائع الجملة الكبير، حزب الله.

استنفدت المقايضات وقودها. لم تعد المضاربات في بورصة الحصص والحقائب والأحجام تفضي إلى جديد. التقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الرئيس عون في يرفان في أرمينيا مصرا على تواجد باسيل بالذات في الاجتماع. أوصلت باريس رسائل دولية جادة وحازمة بضرورة وضع حدّ للمزاد، والتموضع وفق إرادة دولية عامة تريد إغلاق ملف الحكومة في بيروت.

أرسل عون قبل ذلك سهاما طالت عواصم القرار الكبرى. جاءت مواقف الرجل في “الفيغارو” الفرنسية متعارضة مع وجهة التيار الدولي العام. دافع الرجل عن حزب الله وسلاحه وحروبه وموقعه، فيما واشنطن تطلق عقوباتها بتصاعد لا يكلّ ضد الحزب وشبكاته وامتداداته. وحين أطل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو من على منبر الأمم المتحدة في نيويورك، ملوّحا بصور وخرائط لمواقع صاروخية لحزب الله قرب مطار بيروت، تطوّع جبران باسيل بتنظيم رحلة للسفراء الأجانب إلى تلك المواقع لإثبات خلوها مما زعمه نتنياهو وجنرالاته. تحركت باريس بقوة لتعيد تذكير بيروت بأن الأمر ليس دمية صبيانية، وأن هواء الحرب حقيقي لا يتحمل استعراضات لم يهضمها سفراء العالم في لبنان.

بدا أن باسيل فهم في اجتماع ماكرون ما لم يفهمه قبل ذلك. حمل ملف الاجتماع وهرع به إلى الأمين العام لحزب الله حسن نصرالله، وربما من أجل ذلك أصر ماكرون على تواجد باسيل في الاجتماع. دام اجتماعهما ثلاث ساعات، قيل فيها الكثير الكثير. ومن ضمن ما قيل أفرج عن حكومة الحريري العتيدة.

تسلّح رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري بموقف دولي داعم للبنان وداعم له شخصيا. بدا أن مؤتمر الدول المانحة لدعم لبنان (سيدر) الذي عقد في باريس في أبريل الماضي برعاية الرئيس الفرنسي، كان رسالة استهدفت دعم الحريري نفسه أكثر من دعم لبنان. بات الرجل مرجعا لبنانيا ترعاه الدول العربية والإقليمية ويحظى بدعم الدول الكبرى. وحين لوّح بأنه قد يعتذر عن تأليف الحكومة وأنه لن يقبل أن يعود إلى هذه المهمة بعد ذلك، فهم من لم يفهم قبل ذلك أن الرجل يستوحي موقفه من مزاج خارجي عام لم يعد يتسامح مع الدلال اللبناني وسذاجة طبقته السياسية.

ينشغل العالم بورش كبرى ستقرر مصير الشرق الأوسط في المستقبل. إحدى هذه الورش تدور حول مستقبل سوريا، تنخرط داخلها روسيا والولايات المتحدة في منافسة تطل من خلالها تركيا وإسرائيل والدول المحيطة. بات لسان حال واشنطن صارخا واعدا بإخراج كل تفاصيل التواجد الإيراني من هذا البلد على نحو يجعل من لبنان تفصيلا يخضع لأجندات الكبار.

تفصح إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب يوما بعد آخر عن عزم دؤوب على ممارسة أقصى الضغوط ضد إيران. تبدو واشنطن مستخفة بموقف الاتحاد الأوروبي، مقللة من تأثير آليات فيديريكا موغيريني لتأمين دوام التعامل المالي مع طهران. يتحدث المبعوث الأميركي لشؤون إيران، بريان هوك، عن عزم بلاده على إجبار إيران على التوقيع على صفقة جديدة تطال البرنامجين النووي والصاروخي وسلوك إيران في العالم. وفيما يلوّح الرجل بالصفقة بمعناها التعايشي مع نظام الولي الفقيه، تهزّ وزارة الخزينة الأميركية أركان نظام طهران بفرض عقوبات على الشبكة المالية الداعمة لقلب النظام وأداته الضاربة، قوات الباسيج. وعلى هذا لا يُسمح للبنان أن يغرد نشازا لا يتآلف مع معطيات أمر ذلك وقواعده.

أوحى حزب الله أيضا بأن الخارج هو الذي فرض شروط التسوية الداخلية الحكومية اللبنانية. قالت أوساطه إن ولادة الحكومة في بيروت هي نتاج طبيعي للتسوية التي أتت بعادل عبدالمهدي رئيسا للوزراء في العراق. فإذا ما كان للصفقة العراقية عبق إيراني، فهو كذلك في بيروت حمل أريجه وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري في زيارته لبيروت قبل أيام.

لكن الثابت أن حزب الله يريد لهذه الحكومة أن ترى النور. إيران أيضا صار من مصلحتها أن تكون للبنان حكومة شرعية مكتملة بما يلتقي مع الإشارات الدولية. تودّ طهران ملاقاة باريس في سعيها بما يؤكد للأوروبيين دور إيران المفصلي في تقرير أحوال الاستقرار في المنطقة، وبالمناسبة في العراق كما لبنان. بالمقابل، بدا أن حزب الله الذي تتدحرج صوبه العقوبات الأميركية تلو العقوبات، قد آثر الانحناء للعاصفة والتدثر برداء الشرعية اللبنانية داخل حكومة متكتلة يتعايش داخلها، برشاقة، أهل الولاء لها وأهل العداء.

وقد يكون لافتا أن مواقف تيارات السياسة في لبنان في شأن اختفاء الصحافي السعودي جمال خاشقجي بقيت تحت سقف “من عرف حجمه وقف عنده”. إيران نفسها آثرت الصمت “بانتظار انتهاء التحقيقات”، فيما تحفظت بيروت بكافة مشاربها على احترام أمر هذه التحقيقات وما سيصدر عنها. بات اللبنانيون مراقبين للتحولات الكبرى التي تجري حولهم. جادلوا كثيرا في مسألة علاقة بلادهم السياسية الرسمية مع نظام دمشق، ثم أتاهم من أخبرهم أن لبنان مشمول بالاستفادة من فتح معبر نصيب على الحدود السورية الأردنية، دون أن يكون ذلك مشروطا بتلك العلاقة التي أعاد الحريري التأكيد على رفضها قبل أسبوعين.

النظام الدولي يرسم خطوطه بصخب وارتجال وخبث. لم نعرف كيف أفرجت دمشق عن “نصيب” أمام بيروت. شيء ما يُصاغ بدقة قد يحمل مفاجآت في علاقة دمشق مع دول في المنطقة مارست حردا ضدها خلال السنوات الأخيرة. لن يكون لبنان خارج عملية سياسية دولية تنخرط فيها دول العالم قاطبة، ولا مصلحة للبنان أن ينفرد بما هو خارج مزاج العرب والعالم. وقد يعاند اللبنانيون طويلا في الإفراج عن حكومتهم طالما أن أمر ذلك كان متاحا، لكن حين يشتعل الضوء الأحمر، ييسر اللبنانيون بحنان وود عطوف أضواء خضراء لولادة حكومتهم، ويستعدون للإصغاء بحرص لما تهمس به العواصم البعيدة.