تعود جذور القطاع الاستشفائي في لبنان الى منتصف القرن التاسع عشر عندما أسّس الاخوان ميخائيل وجبور طوبيا من عمشيت مستشفى مار مخايل سنة 1850، وبدأ العمل في منزل احدهما ريثما تم إنشاء مبنى كامل للمستشفى سنة 1892. كما ان قسما من السرايا الكبيرة، مركز رئاسة الحكومة اليوم، استعمله العسكر العثماني كمستشفى ابتداء من سنة 1865.
 

الانطلاقة العلمية للمستشفيات، بدأت مع افتتاح كلية الطب سنة 1867 في المدرسة الانجيلية السورية التي اصبحت لاحقا الجامعة الاميركية في بيروت، ثم بدأ العمل في اول مستشفى للجامعة الاميركية سنة 1902. افتتحت كلية الطب في جامعة القديس يوسف سنة 1886 ثم مستشفى اوتيل ديو الذي وضع حجر الاساس فيه سنة 1923، ثم تلا ذلك تأسيس مستشفى القلب الاقدس والمستشفى الالماني الذي صار اسمه السان شارل ومستشفى بحنس الخ ...

هكذا كانت الانطلاقة علمية بامتياز على ايدي جمعيات دينية اجنبية جاءت تنشر العلم والاخلاق في هذا البلد الصغير، الخاضع للنير العثماني الذي كان مفروضا على كل المنطقة العربية، فصار يحاضر في كليات الطب فيه خيرة من الاساتذة الاجانب.

وصار يقصدها الشابات والشباب من كل بلدان الجوار للتعلّم واكتساب الخبرة، كما قصدها المرضى للحصول على العناية الطبية. الى جانب السمة العلمية، برزت ايضا الناحية الانسانية كونها لصيقة برؤية ومهمة هذه الجمعيات الدينية المؤسسة التي كان هدف عملها هم الناس الفقراء اولا.

اليوم، بعد مرور اكثر من قرن على هذه الانطلاقة، وبلوغ عدد المستشفيات في لبنان اكثر من 150 مستشفى، نلاحظ نوعا من الود المفقود بشكل عام بين هذه المؤسسات وبين الناس. نسمع دائما كلاما عن اشكالات في غرف الطوارئ بين العاملين في المستشفى وبين الوافدين اليه، كلاما آخر عن عدم تمّكن المريض من الدخول الى المستشفى لأسباب مالية، وآخر عن سوء المعاملة من قبل الطواقم التمريضية، وكذلك عن عدم الاهتمام بالشكل الكافي من قبل الطبيب، الى شكاوى كثيرة نسمعها كل يوم وهي وان لم تكن كلها صحيحة الا انها تشير الى خلل ما في التعاطي بين الناس والمستشفى.

الاسباب متعددة والمسؤولية تقع على عاتق جميع الافرقاء واهم هذه الاسباب:

1- الضغوط المالية التي تتطلب من المستشفى الحفاظ على التوازن المالي الذي يؤمّن استمراريتها، ومواكبة التطور العلمي مع ما يتطلب هذا الامر من تحديث معداته بشكل دوري، والمحافظة على الموارد البشرية الكفوءة وتلبية متطلبات انظمة مراقبة الجودة المطلوبة منها كي يسمح له بممارسة عمله. هذا يفرض ان تتأمن نسبة معقولة من الارباح حتى بالنسبة للمؤسسات التي لا تبغي الربح.

2- التغطية التي تؤمّنها الجهات الضامنة ليست كافية والمريض يتحمّل جزءاً، احيانا مهماً، من التكاليف ليس في مقدوره دائما تأمينه، مما يتسبّب باشكالات بين المريض وادارة المستشفى.

3- ان مستوى التخاطب اللائق بين الناس في لبنان اصبح منخفضا بشكل ملحوظ، وعلى كافة المستويات فما نراه على شاشات التلفزة من كميات هائلة من الشتائم والتلاسن بين السياسيين الذين يفترض فيهم ان يكونوا قدوة، لا يختلف ابدا عما نراه في الشارع بين عامة الناس ولا سيما عديمي الاخلاق منهم. وما يحدث هنا وهناك يحدث ايضا في غرف طوارئ المستشفيات التي تتعرّض للتكسير والعاملين فيها للضرب بدون اسباب وجيهة.

4- ان العمل التمريضي صعب جدا بطبيعته، والممرضون يقعون دائما تحت ضغوطات جسدية ونفسية سيما انهم غالبا ما يعملون ساعات اضافية نهاراً وليلاً، وعلى المرضى ان يتفهموا هذا الامر ، وان الممرضين دائما لهم مهام محددة ولا وقت لديهم للمجاملة في اغلب الاحيان، او لتلبية طلبات خارجة عن نطاق العمل التمريضي وتدخل في نطاق العمل الفندقي. وفي الوقت نفسه على الممرض ان يتفهم الوضع النفسي للمريض، الذي يأتي الى المستشفى بطبيعة الامور مجبرا بسبب مرضه، وهو بالتالي، بحاجة الى الاهتمام به بشكل لائق ولطيف ومتفهم.

5- الطبيب هو المسؤول الاول عن علاج المريض وعليه ان يمضي الوقت الكافي ليشرح له عن مرضه وعن سبل المعالجة. من الثابت ان المريض يتأثر كثيراً بكلام طبيبه وهذا الكلام يمكن ان يثير حفيظته كما يمكن ان يهدئه. وفي المقابل، على المريض ألاّ يطلب ان يأتي اليه الطبيب وفق مزاجه وفي الاوقات التي يرتأيها هو.

ان المستشفى ليس مكانا ساكنا او مغلقا، بل هو في حركة دائمة: المرضى والمعالجون وتنظيم العلاج والاستفادة من التقدم العلاجي والتقني. ولكن لا ننسى ان على المستشفى ايضا ان تواكب التغييرات الاجتماعية والثقافية. في هذا الاطار نطرح عنوان «انسنة المستشفيات» وضرورة العمل في هذا الاتجاه نظراً الى الحالة السيئة التي وصلنا اليها في لبنان على هذا الصعيد.

المستشفى تشكو وكذلك المريض والممرضون والطبيب وجميع مقدمي العناية الطبية. حان الوقت لكي نضع المريض في وسط الاهتمام، ولكن مع تأمين شروط العمل العادلة لمقدّمي الخدمات كي يقوموا بواجباتهم بالمستوى المطلوب. 

(المهندس سليمان هارون)