منذ التكليف، مورس كثير من الضغوط على الرئيس سعد الحريري، ليتجاوب في التأليف مع هذا الطرف أو ذاك، لكنه «صمد» وراهَنَ على الآتي: الآن، لا يبدو أحدٌ مستعداً للتنازل، ولكن، عندما تبلغ الأزمة ذروتها، ويتضرّر الجميع، ستتدخّل القوى الخارجية التي ترعى التسويات وتطلب من الجميع أن يتّفقوا. وعندئذٍ، ستتمّ التسوية، ولن يستطيع أحدٌ أن يلوم رئيس الحكومة على أيِّ نتائج أو أن يحمِّله المسؤولية!
 

من خلال التجارب، أدرك الحريري أنّ الأمور في لبنان محكومة باعتبارات تتجاوز المعايير المحلّية، وأنّ الوقت غالباً ما يكون «حَلّال المشاكل».

ولذلك، لم يستعجل التأليف بأيّ ثمن. وأساساً، لا هو قادر على إعلان التمسّك بنهج التسوية الذي تسبَّب بأزمة 4 تشرين الثاني 2017، ولا هو قادر على إعلان الخروج منه.

كثير من المراقبين كان يسأل على مدى الأشهر الـ5: هل من المقبول أن يقع البلد في هذا المأزق الخطر، وهو بلا حكومة، واستقراره معرَّض للاهتزاز، من أجل مقاعد وزارية لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة؟

والجواب، لدى الأوساط القريبة من الحريري، أنّ التجاذبات الجارية هي لملء الوقت الضائع، لا أكثر ولا أقل. وأما الحكومة فستولد في نهاية المطاف، ولن يستطيع أحد أن يعزل أحداً فيها. وستحصل التسوية بعد أن يتلقّى --عدد من الأطراف «كلمات سرّ» ينتظرونها من حلفائهم في الخارج.

المتابعون يقولون الآن إنّ الحريري ربح الرهان. والإعلان عن اقتراب التسوية الحكومية، في غضون أيام على الأرجح، يؤكد أنّ «كلمة السرّ» المطلوبة قد وصلت.

ومن الواضح أنّ التسوية تقترب فيما لم تطرأ تحوّلات تُذكَر على مطالب القوى المحلية، في ما يتعلق بالحصص والحقائب. وهذا ما يثبت أنّ ولادة الحكومة هي في حدّ ذاتها قرار سياسي.

وهذا يؤكد المعلومات عن أنّ عقبات التأليف، طوال 5 أشهر، لم تكن ذات طابع تقني صرف، أي أنها لم تكن تتعلّق بتوزيع الحصص والحقائب على القوى المحلية، بل بوجود قرار خارجي «كبير» بتجميد التأليف انتظاراً لتطورات إقليمية وداخلية تمنح هذا الطرف أو ذاك وزناً أكبر في السلطة التنفيذية، وتقرّر: لمَن غالبية القرار السياسي في لبنان؟

ووفق ما يتردّد، أبلغت قوى إقليمية ودولية عدّة حلفاءَها في الداخل، أنّ اللحظة مناسبة لتأليف الحكومة سريعاً، وبما أمكن من أرباح أو بأقل مقدار من الخسائر، لأنّ المرحلة صعبة وتتطلّب تركيز الاهتمام على ملفات أوسع وأشدّ خطراً. كما أنّ مراهنة بعض القوى على مزيد من المكاسب في الداخل اللبناني لم تعد في محلّها خلال هذه الفترة.

والأصحّ، كما يقول عضو في تكتل نيابي بارز، أنّ بعض القوى الداخلية تلقّى إشارة من الحلفاء الإقليميين بأن «يتصرَّف» في الملف الحكومي وفقاً لما يرى مناسباً، لأنّ ما يجري على الساحة اللبنانية هامشي وتفصيلي، إذا ما قيس بالتطورات الاستراتيجية الآتية إلى عدد من دول الشرق الأوسط.

وفي تقديره أنّ 3 إشارات خارجية أساسية تقاطعت على تسهيل تأليف الحكومة سريعاً، وهي:

1 - رغبة إيران في تسريع الحصول على تغطية لبنانية رسمية مع انطلاق الجيل الجديد من العقوبات الأميركية، في 4 تشرين الثاني المقبل. وأساساً لا يعاني حلفاء إيران أيَّ مأزق في ملف تأليف الحكومة، لأنهم الغالبية في المجلس النيابي وسيكونون الغالبية في الحكومة، أيّاً كانت الصيغ التي يجري إعدادُها.

لكن ما تريده طهران وحلفاؤها هو فقط وجود الحكومة اللبنانية الفاعلة، برئاسة الحريري، لما يمثله من تغطية ورصيد عربياً ودولياً، في موازاة التغطية التي يوفرها الرئيس ميشال عون في موقع رئاسة الجمهورية.

2 - قلق التحالف العربي من مؤامرة تستهدفه، عن طريق استغلال بعض التطورات الإقليمية الطارئة، ومنها ملف الصحافي جمال خاشقجي. ويمتلك هذا التحالف طاقات كبيرة للمواجهة، لكن هذا الأمر يقتضي عدم الانشغال بملفات إقليمية صغيرة نسبياً، ومنها ملف تشكيل الحكومة في لبنان.

3 - مخاوف الأوروبيين، والفرنسيين تحديداً، من تداعيات أيِّ انهيار للاستقرار اللبناني، وخصوصاً على المستويين السياسي والاقتصادي. فذلك يمكن أن يؤدّي إلى تحويل لبنان بؤرة فوضى إضافية غير محسوبة في الشرق الأوسط، تنعكس فلتاناً في الهجرة غير الشرعية للنازحين السوريين عبر المتوسط إلى أوروبا. وهو ما أبلغه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الى نظيره اللبناني في يريفان أخيراً.

ويبدو أنّ الفرنسيين والأوروبيين عموماً، على استعداد للمساهمة في توفير مساعدات جديدة للبنان، تضاف إلى المليارات الـ11 التي جاء بها مؤتمر «سيدر»، إذا أحسنت الحكومة اللبنانية إدارة هذه المبالغ. وقد ألحّ الفرنسيون في الأيام الأخيرة على لبنان أن يكسب الوقت بتشكيل حكومة فاعلة.
وهذه المخاوف الخارجية جاءت في الوقت المناسب لبنانياً، لأنها التقت مع مخاوف متزايدة من انهيار اقتصادي ومالي ونقدي من شأنه أن يخلط الأوراق جذرياً على الساحة اللبنانية.
كذلك تتزامن هذه المخاوف مع رغبة رئيس الجمهورية في تحقيق إنجاز في الملف الحكومي قبل 30 تشرين الأول الجاري، ذكرى العامين على تولّيه مقاليد الحكم، و22 تشرين الثاني، ذكرى الاستقلال، حيث يرغب في أن يكون إلى جانبه في العرض العسكري رئيسٌ للحكومة كامل الأوصاف دستورياً.

لذلك، وبناءً على التشجيع الخارجي والسعي الداخلي إلى تجاوز هواجس الانهيار، على الأرجح، ستكون هناك حكومة قبل نهاية هذا الشهر، وقبل 4 تشرين الثاني، وقد لا يتأخّر نيلها الثقة ومباشرتها مسؤولياتها إلى ما بعد منتصف الشهر المقبل.

وسيؤدي تأليف الحكومة إلى تنفيس الاحتقان الاقتصادي والمالي والنقدي، ولو مرحلياً. ومن علامات «القِسْمة والنصيب» أنّ على وجهها أُعيد افتتاح معبر «نصيب»!