من الأفضل ألف مرّة عدم فتح ملفات الحرب الأهلية ونكأ جراحها الدامية
 

كتب أحدهم مُعلّقاً على مقالة لي تتناول مقابلة الوزير جبران باسيل مع الإعلامي مارسال غانم، ومن البداية أخذ على اللبنانيين تجديدهم انتخاب الطبقة السياسية السائدة، ولعلّه كان يأمل أن يكتسح اليسار انتخابات الجنوب والعاصمة حاملاً حفنةً من "اليساريين" الذين لا بدّ سيتمكّنون من "شيل الزير من البير"، ولا ضير في هذا، لو أنّه سهل المنال، ومن ثمّ استغرب صديقنا جراءتي على الوزير باسيل وأساليبه الصبيانية (التعبير له)، وصمتي عن "السجل الإجرامي"  (والتعبير له ) لأعتى خصوم باسيل في الملف الحكومي، وهنا يقصد بوضوح القوات وقائدها الدكتور سمير جعجع، وهاهنا أحبُّ أن أتوقف مليّاً.

أولاً: الحرب الأهلية .. أهوالها وجرائمها...

شهد لبنان ما بين العامين 1975 و1990 حرباً أهلية طاحنة، لم تبق جريمة موصوفة إلاّ وارتُكبت فيها من كافة الأطراف: الذّبح على الهوية، الخطف والتعذيب، التّهجير، اقتحام المدن والبلدات والأحياء وما تُخلّفه من قتلٍ وتدمير، إنهيار السلطة الشرعية للدولة وقيام سلطات الميليشيات المرعبة، وعندما وضعت هذه الحرب أوزارها بفضل اتفاق الطائف وتضافر الإرادة الدولية بإنهاء المأساة اللبنانية، تقدّم قادة الميليشيات بعد أن سلّموا سلاحهم الثّقيل (الثقيل فقط) للدولة التي ازمعوا على قيامها لاستلام مقادير الحكم، ولكُلّ منهم سجلّهُ "الإجرامي" الخاص به، وليس الأمر مُقتصراً فقط على الدكتور جعجع، الذي استمرّ في مناكفته لسلطة الوصاية السورية، فقبع في سجن الوصاية-الدولة الانفرادي أحد عشر عاماً، في حين كان القادة الآخرون ينعمون بمزايا السلطة، يحشرون أزلامهم في مؤسسات الدولة وأجهزتها الأمنية والعسكرية، ويُكدّسون الثروات التي وفرّها نهب المال العام، وهي ديون بالمليارات ما زالت تتضخم حتى الساعة، ويرزح تحت ثقلها المواطنون الصابرون الغافلون.

إقرأ أيضًا: مقابلة باسيل مع غانم..الانحطاط السياسي مُترافقاً مع الانحطاط الأخلاقي

ثانياً: نكأُ جراح الحرب الأهلية يُعمّقها بدل مداواتها...

من الأفضل ألف مرّة عدم فتح ملفات الحرب الأهلية ونكأ جراحها الدامية، فقد طوتها المصالحة الوطنية في الطائف وكرّسها اتفاقها، لا فائدة من استعادة ذكريات حروب المخيمات، وحروب الإلغاء بين الأهل والبيت الواحد، حروب التحرير العونية، حروب الأهل والرفاق داخل الأحياء "الوطنية"، استباحة سيادة البلد واستقلاله من قبل الوصاية السورية وما رافقها من انتهاكات ومآسٍ، إلاّ أنّ ما يُستحسن تذكُّره وما هو محفورٌ في سجلّ قائد القوات "الإجرامي" بأنّه كان السّباق في المنطقة الشرقية لبيروت للقبول باتفاق الطائف والسير بمندرجاته، وذلك كممرٍّ إلزامي ووحيد للخروج من دوامة الحرب الأهلية، في حين من جرى "تبييض صفحته" فيما بعد، ويجلس اليوم في سدّة الرئاسة الأولى، كان رأس الحربة في مناهضة الاتفاق ومحاربته، ورفض شرعية رئيسين منتخبين، فسقط الرئيس رينيه معوض مُخضّباً بدمه، قبل أن يقوم الرئيس الراحل الهراوي بتمكين سلطة الوصاية من احتلال وزارة الدفاع والقصر الجمهوري بفضل مكابرة وعناد الرئيس ميشال عون أيام حروب "التحرير".

ثالثاً: تبييض سجلات الجميع أو تسويدها...

لذا، بات من الضروري تذكير كافة "الممانعين" بأن لا بدّ من "تبييض" سجلات جميع من ساهم في الحرب الأهلية بكافة أشكالها ومنعرجاتها، أو "تسويدها" جميعاً، حتى ينتفي كلّ تمييز اعتباطي وتعسُّفي، ولعلّ التبييض هو الأفضل للجميع. أمّا جراءتنا على الوزير باسيل، فمردُّها إلى سلوكه الحالي ونهجه الطائفي والعنصري والفئوي، وقناعتنا باعتباره أبرز الظالعين في منظومة الفساد التي تفتك بالبلد، وما انتقادنا إياه إلاّ بدافع ما يُمليه علينا الواجب الوطني والحسّ الأخلاقي والدافع الإصلاحي، وما إشادتنا بمواقف القوات اللبنانية وقائدها هذه الأيام، إلاّ انتصاراً للحقّ وإيماناً بقيام دولة السيادة والرقابة والمحاسبة وحفظ المال العام، والضرب بيدٍ شديدة على الفاسدين وبائعي الأوطان في سوق الحسابات الإقليمية والدولية.