للمرة الأولى يشعر المراقبون انّ هناك «طبخة حكومية» وضعت على نار قوية، الى درجة أوحَت أنها دخلت غرفة الولادة وهي في «ربع الساعة الأخير من المخاض». فالتفاهمات قطعت شوطاً بعيداً وأُقِرَّت الحصص بالصيغة النهائية، ويتجلّى ما تبقى في توزيع بعض الحقائب لتبصر الشكيلة كاملة النور بعد إسقاط الأسماء عليها. فما الذي يقود الى هذه الخلاصة؟
يُجمع المراقبون في مقاربة ملف تأليف الحكومة على أنه بات في المراحل الأخيرة، فقد اعتاد الطبّاخون مواجهة كثير من مطبّات الساعات الأخيرة بما فيها ما هو منطقي وما هو وهمي، لكون ذلك لا يعدو سوى رفع سقوف في اللحظات الأخيرة التي يتقلص فيها هامش المناورة الى الحدود الدنيا.
 
وخلافاً لأجواء الملل التي تسود الأندية السياسية، فإنّ البلد يعيش منذ ايام ما بين موجات السخونة والتبريد، وتتناتشه المواقف والنظريات على مسافة ساعات لا أيام، وذلك على وقع مزيد من السيناريوهات المتقلبة التي ضيّعت اللبنانيين، فتغريدة من هنا وأخرى من هناك تتلاعب بأعصابهم وتغيّر أمزجتهم.
 
قبل 9 ايام فتح الرئيس المكلف سعد الحريري الآفاق واسعة امام اللبنانيين ووعدهم بحكومة في خلال 10 ايام، وما ان تنفّس لبنان واقتصاده صباح اليوم التالي الصعداء، حتى نعاها رئيس «التيار الوطني الحر» الوزير جبران باسيل ظهراً وأبعد عن اللبنانيين جو التفاؤل.
 
ولذلك تلاحقت الإتصالات واطمأنّ الجميع الى انّ ما جرى لا يستأهل التوقف عنده، فالعملية هي سباق ربع الساعة الأخير الى منصة التتويج بعد تقاسم الحصص والحقائب.
 
وما بين مسحات التفاؤل التي عكستها مصادر بعبدا و»بيت الوسط» قبَيل توجّه رئيس الجمهورية الى يريفان، أصرّت «عين التينة» على «ان ترى الفول في المكيول.
 
ومَردّ ذلك الى النتائج التي ترتبت على اللقاء الأخير بين رئيس الجمهورية والرئيس المكلف قبل إطلالة الاخير التلفزيونية، والتي عدّت جلسة «مصارحة» اضطر خلالها الرجلان الى وقف سيل المناورات التي لم تأت سوى بتشكيلات لا يمكن ان يتقبلها رئيس الجمهورية، لا في شكلها ولا في الحصص ولا في الحقائب لخروجها على كل ملاحظاته السابقة الى درجة التحدي.
 
ومنذ ذلك اللقاء انقلبت الأجواء، وبدأ السعي الفعلي للتأليف، وسقطت مناورات عدة لجأ اليها مختلف الأطراف عبر مجموعة من السيناريوهات الغريبة والعجيبة لِما فيها من شروط وشروط مضادة لا يمكن ان تقود الى التأليف مهما طال الانتظار.
 
وعليه، وأمام حجم التطورات المتوقعة على أكثر من صعيد، فقد طرحت مجموعة ملاحظات تقود تدريجاً الى التحولات الجدية التي أطلقت موجة من التفاؤل لا بد من الإشارة اليها، نظراً الى عوامل عدة داخلية وخارجية أعاقت مهمة الرئيس المكلف الى الآن، ولا يمكن لأحد ان يصدق ان هذه العوامل ما زالت داخلية بحتة.
 
فالخيط الرفيع الفاصل بين العراقيل الداخلية والخارجية يكاد الّا يكون مرئياً سوى عند البحث في نوعية الحراك الدولي الذي يساعد على توفير الأجواء الملائمة للإسراع في تأليف الحكومة.
 
ويقول العارفون انّ مضمون التقارير المالية والإقتصادية التي وضعت بين أيدي المسؤولين مشفوعة بالمواعيد المقبلة للعقوبات الأميركية على إيران وحلفائها في المنطقة، ومنها لبنان، وبالتشدد الأميركي تجاه تصرفات بعض أهل الحكم، ينذر بكثير من الضغوط، ليس أقلّها الحديث المتجدد عن عقوبات جديدة ستطاول بعض المسؤولين اللبنانيين في كل القطاعات الحكومية والسياسية والحزبية وصولاً الى الديبلوماسية، ما يُنذر بحصار كبير لا يستطيع أهل الحكم ان يواجهوه متفرقين، وبات لزاماً عليهم التعاون والتعاضد لمواجهة الآتي من استحقاقات اقتصادية وسياسية وديبلوماسية، وربما أمنية، وهذه الاستحقاقات لا يمكن تطويقها او التخفيف من وطأتها بالاتكال على نظرة المجتمع الدولي الموضوعية الى لبنان وتغاضيه عن كثير من المخالفات المرتكبة طوال السنوات الماضية، والتي تفاقمت في الأسابيع الأخيرة على اكثر من مستوى وباتت على قاب قوسين او ادنى من الانفجار في وجه الجميع، ما يفرض عليهم وقف كل أشكال المناورات.
 
فالتذاكي على المجتمع الدولي بقرارات من مثل «حرص لبنان على سياسة النأي بالنفس» تجاه بعض القضايا الإقليمية والدولية لم يعد مجدياً، وإخفاء كثير من الصفقات الداخلية لم يعد ذي نفع لأنّ هامش الحركة بات ضيقاً الى درجة كبيرة، وهناك قرارات صعبة على لبنان اتخاذها في مجالات عدة ولا يمكن تأجيلها.
 
ولقد تولّد اقتناع بضرورة الشروع في تأليف الحكومة التي يحتاج اليها الجميع بلا استثناء. فلا أهل الحكم في منأى عن العقوبات المقبلة، ولا «حزب الله» سيكون مرتاحاً الى ما هو منتظر من إجراءات متشددة.
 
وبات الإستقرار الذي يتغنّى به المسؤولون على المحك، الامر الذي لا يمكن استيعابه بلا حكومة كاملة المواصفات يفترض انها باتت قريبة الولادة ولن يحول دونها خلاف على حقيبة من هنا وأخرى من هناك. فكل المخارج متوافرة ولا تحتاج إلّا الى تظهير، على حد ما يجزم مرجع أمني وسياسي كبير.