مجموعاتها الشعرية قاربت العشرين، بالإضافة إلى كتب أخرى، وروايتين تحت الطبع، ومسيرة تمتدّ على نصف قرن في معاقرة الحبر والضوء وصناعة إعلام المحبة. هذه هي مريم شقير أيو جودة التي تعيش بين كتبها وأوراقها، وحولها أحفاد هم كلّ ما تبقّى لها من أمل، في وطن يقطع «أرزاته» بفأس الإهمال.
 

بدأت محرّرةً في دار الصيّاد، ثم تولّت في أكثر من مجلة لبنانية وعربية منصب رئيسة التحرير، مَن يعرفونها ويقرؤون لها يعلمون أنها تكتب بقلبها، لا بقلمها.. لهذا ومنذ وقت طويل حملت لقب سيدة برج المحبة، ثم لقب ماما مريم. أسّست داراً للنشر، وقدّمت للقرّاء العرب أصوات شعرية شابة، وهي اليوم تحتل الواجهة الشعرية في لبنان والعالم العربي.

مريم شقير أبو جودة، سنوات من النضال الحقيقي، سلاحها قلب ومحبرة وحبّ كبير للحرف، هي اليوم على مشارف السبعين من عمرها... وفتحت لنا باب القلب ونثرت أمامنا ورود الأوراق وأشواكها في حديث خاص لـ«الجمهورية».

• هل قدّمت كل ما لديك خلال مسيرة نصف قرن من الكتابة والشعر والإعلام؟

في عملنا، إن كان كتابة إبداعية أو إعلاماً مكتوباً أو مرئيّاً أو مسموعاً، لا قيمة للزمن. كل التخصّصات على الكوكب تمرّ بفترة ازدهار، ثم يصل أصحابها لسنّ التقاعد، في الكتابة نبقى نكتب إلى أن تنقَش أسماؤنا على شاهدة القبر.
بعد كثير من الكتب ، وبعد أكوام من النصوص في النثر والصحافة، والبرامج، أشعر أنني لم أقل كلّ ما لديّ، أشعر أنّ هناك الكثير عليّ أن أكتبه أو أبوح به، وأحتاج أزمنة إضافية وأعماراً بلا عدد كي أنهي عبارتي، ثم أرحل في سلام.

• كتبتِ الشعر والنثر والأدب السيرة، وعملت في الصحافة الورقية، وكتبت للتلفزيون والغناء. أين برعت أكثر، وأين تجد مريم نفسها؟

أختصر الإجابة لأقول أنا في الشعر، ولكي أكون دقيقةً أكثر، أنا حملت الشعر إلى بقية الأصناف، شعرنت الصحافة وأدّبتها، ورفعت من قامة النصّ الصحافي والمقابلة الصحافية، ولم أشعر مرّة أنني أصحفن القصيدة. دائماً حين أكتب أشعر أنّ القصيدة وحدها تجعل حنجرتي أكثر مرونة وقلمي أشدّ صداقة مع الأوراق.

• لكن اليوم انتهى زمنُ الورق؟

لن ينتهي زمن الورق، أقلّه لديّ، أنا لغاية اليوم لا أجيد التعامل مع الكمبيوتر والتواصل الاجتماعي، على الورق أجد نفسي أكثرَ حريّة ومصداقية، ومثلي كثيرون.

• بداياتك كانت في دار الصياد، في الأنوار والصياد والشبكة، قبل فترة أقفلت تلك الدوريات، ما هو شعورك؟

يوم أقفلت السفير بكيت، وأمام اقفال دوريات الصياد، نزفت وشعرت أنّ ملاعب طفولتي الإعلامية الأولى تصحّرت. أطلقوا النار على الأحلام التي كانت ورديّة وقتلوا سيرة الضوء.. كلّما أقفلت صحيفة تموت غابة، وتتّسع الصحراء.

الصيّاد بالنسبة لي ولادتي ومهدي، ولن أنسى أبداً معلّمي ومعلّمنا جميعاً سعيد فريحة، وحظّي الكبير أنني تتلمذت على يديه وعلى يدي الراحل الكبير علي أمين، الذي كان ضيفاً لسنوات في دارنا وقد تآخيت مع اصحاب الدار عصام وبسام والهام الذين لم يتركوني حين تسلمت رئاسة تحرير أكثر من صحيفة عربية وبقيت مجرّد ناقدة فنّية في الشبكة باختياري فقد كانت المحبة أكبر من أن أكون موظفة في دارهم التي أدين لها بالوفاء ما حييت.

• عملت لفترة طويلة في الصحافة الفنّية، كيف تقيّمين تجربة هذا النوع من الصحافة بين الأمس واليوم؟

لا اختلاف بين الصحافة الفنّية وسواها، في الصحافة السياسية تكون البطولة للسياسيين والسماسرة والمحتالين على الناس، وفي الصحافة الفنّية، تُعطى البطولة لأهل الفن والموسيقى والأزياء، وبينهم طيّبون ومحتالون. وفي كل أنواع الصحافة المجال واسع وكبير للتلفيق والتصفيق وصناعة الفقاعة.

ربما قبل 20 أو 30عاماً كانت للصحافة مصداقية، وكان لها طعم. اليوم كل الصحافة بكل أنواعها مقروءة ومرئية تجيد الكذب، والقفز على الحبال. ومع ذلك لم أتوقف عن النقد البنّاء حتى على وسائل التواصل الاجتماعي حين يعجبني شيء وأقتنع في التلفزيون اكتب عنه، وحين أكون مضطرة لنقد سلبي يستحقه عمل سيّئ أبلع ريقي مرّات قبل أن اقولها، لكنّي أجهد أن لا أسيل الدمّ. مشكلتي انني أمّ للجميع حتى لو أطالوا الغياب والبعد عني، كلهم أكلوا على طاولتي وعاشوا في بيتي وتآخوا مع بناتي.

• ماذا تفعلين اليوم، هل ما زلت قادرة على العمل؟

ربما يخون الجسد لكنّ القلم لا يخون، أنا اليوم في فترة حداد على كل ما مضى، على كلّ أمل يضيع وضوء يموت، ولن أتوقف عن العمل. أكتب، أقرأ، أتابع، وأنتظر العبارة الأخرى التي ستنقش على شاهدتي.

• لماذا ترفضين اللقاءات التلفزيونية وأعرف أنّ محطات كثيرة تحاول إقناعك؟
أنا لست طالبة شهرة، كل هذا البريق المجّاني اعتبره مجداً باطلاً، الضوء لم يعد يعنيني، أنا أكتب وأنشر إذاً أنا موجودة حتى ولو كنت في مملكتي بمنزلي الجنوبي الذي لا تزال فيه رائحة ابي وأمي وعائلتي.

• ما رأيك بالحركة الشعرية في لبنان والعالم العربي، أنت تكتبين كثيراً وتطلّين قليلاً؟

أكتب لقارئ سيجيء ذات يوم، وأتابع المشهد الشعري اللبناني والعربي بصمت ووجع. في لبنان فورة شعرية، هجمة قوية لأسماء ونتاجات كثيرة، لو تمّت غربلتها لما بقي في غربال النقد والمنطق إلّا النزر اليسير اليسير. لا أقول

أنّ المشهد يخلو من الشعراء، هناك قلة من شعراء حقيقيين ، ووفرة في الادّعاء والانتحال والهشاشة.
وهذا ينطبق على العالم العربي ككل.

وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة سمحت لكل مَن هبّ ودبّ أن يقول عن نفسه أنه شاعر، وهذا إجحاف وظلم كبير.. أنا لستُ ضد إفساح المجال للموهوبين، لكنّي ضدّ هذا الهبل الجماعي والركض خلف لقب شاعر، وهو أخطر لقب بشري.

• هل تحضّرين لكتاب جديد؟

لديّ روايتان وأكثر من مخطوطة شعرية، لكنني بصراحة لا أفكّر بالنشر، سأترك هذا الإرث لبناتي من بعدي، لعله يأتي يوم ويستعيد الكتاب دوره وتألقه.

• إلى أيّ مدى ساهمت في خلق ألقاب فنّية وشعرية من خلال عملك، اليوم أنت لست راضية عنها؟

لم أكن معصومة عن الغلط، كتبت عن كثيرين ولم يستحقوا ما كتبت عنهم، وجاملت، وأطلقت ألقاباً على فنّانات وفنّانين ربما كانوا في وقتها موضع أمل، وظننت أنهم سيشكّلون الفارق، لكنّ الخذلان أحياناً يكون خفيّاً، حين يظهر نشعر بالندم، وقت لا ينفع، لكن في الوقت ذاته قدمت شعراء وفنانين ، كانوا على قدر المسؤولية وحقّقوا النجاح والتألّق.

• هل كانوا أوفياء لك؟

الوفاء عملة نادرة، مع الأيام وكلّما تقدّمنا بالتجربة ومعاشرة الناس نكتشف أنّ المصالح هي التي تسود، وأنّ الوفاء تماماً كما الخلّ الوفي مجرد أسطورة في ذاكرة الأكاذيب.

• ألا تفكرين بكتابة سيرتك؟

أنا أكتبها منذ زمن، وسيرتي هي سيرة بلد بأسره خلال 50 عاماً من الانكسارات والحروب والوجع، سيرة كثيرين تداخلت مع حياتي، كنتهم وكانوني، سيرة خذلان وحبّ ورحيل وألق وقلق.

• متى تقومين بنشرها؟

لن أقوم بنشرها، سأتركها خبيئة في مكتبتي كما الروايتين وبقية الكتب، برأيك هل في المكتبة العربية متّسع لمزيد من الكلام؟ وهل القارىء العربي الذي بات نادر الوجود سيكلّف نفسه عناءَ قراءة سيرة سيدة عجوز.. ربما هذا الجيل بغالبيته لم يسمع بي، الجيل الذي أنتمي إليه يُدفع به إلى النسيان.

• بماذا توصين جيل الشباب؟

ما سأقوله مجرّد هراء وكلام عابر، جيل الشباب اليوم يحتاج كثيراً لإعادة صقل وتوجيه، وأنا أعتبره مظلوماً لأنه ورث أخطاءنا ونكباتنا. أريده أن يقرأ، أن يبحث عن الحقيقة خارج كتب التاريخ الملفّقة، أن يدخل أكثر في العائلة وفي إنسانيّته، أن يبحث عن الشعر في الحياة وليس في الورق.

• هل ينطبق الأمر على حفيداتك، ماذا تقولين لهن؟

ينطبق على الجميع ، حفيداتي ينتمين إلى هذا الجيل، جيل الريموت كونترول والشاشات بكل أنواعها، أحاول أنا وبناتي أن نقدّم التأثير الإيجابي، أن نقرّبهن من الكتاب، لكن ّالمجتمع ككل تحوّل إلى شاشة ملتبسة.. أنا اليوم ، بين كتبي واوراقي أعيش، وحولي حفيد وحفيدات هم كل ما تبقى لي من أمل.