في الكيمياء، تُمنَحُ جائزة «نوبل» هذا العام لعلماء نجحوا في الإستفادة المخبرية من نظرية التطوّر الداروينية «التي وضعوها في أنبوب» ليخرجوا بفتح غير مسبوق، هو «التطوّر الموجّه» للجزيئات، بما من شأنه أن يفتح آفاقاً غير منظورة سواء في الميادين العلاجية أو الصناعية. «التطوّر الموجّه»، المكرّم كيميائياً وعلمياً، يُعيد الإعتبار بمعنى من المعاني لفكرة التقدّم.

لا يبدو العالم المختزل إلى أنبوب في كيمياء «التطوّر الموجّه» شبيهاً بعالمنا هذا، المنفلت أكثر فأكثر من عقاله، سياسياً وإقتصاديّاً وأمنيّاً، ناهيك عن سياسات الهوية الإنطوائية والرُهابيّة التي تنخر في تراكمات الوعي بشكل خطير ومتمادٍ. العالم أبعد ما يكون عن أنبوب «التطوّر الموجّه» هذا: المزيد من «الشعبويات»، والتطرّف اليمينيّ، والإكثار من عوائد ذمّ الديموقراطيّة، والتحريض عليها من حيث المبدأ، بعد أن كان الجاري قبل ذلك إمّا إعتبارها حلالة المشاكل السحرية فوق اللزوم، وإما الإكتفاء بنقد تعثراتها وتطبيقاتها غير الكاملة أو غير المتوازنة. أزمة الشرعية السياسية تطرح نفسها في عدد واسع من بلدان أكثر فأكثر، وحتى باختلاف النظر عن طبيعة الأنظمة السياسية والإقتصادية القائمة فيها. وإلى حد كبير، العالم «في إنتظار» واحد من «تطوّرين»، إما موجة جديدة من تقلّبات النظام المالي العالمي، وإمّا موجة جديدة من الإنهيار السياسي. يبقى أنّه، بالنسبة إلى البلدان العربية، فهي لا تزال تعيش تداعيات صعود وضياع الموجة الإنتفاضية الكبرى لعام 2011، التي كانت في جزء أساسي منها نتيجة لتصدّعات النظام الرسمي العربي بمكوّناته المختلفة في العقود التي سبقت، وهزمت بعد ذلك بأكثر من شكل وإطار لـ «الثورة المضادة».

العشوائية تأكل العالم أكلاً. هل يمكن مثلاً رسم خط بياني مترابط لدونالد ترامب منذ وصوله إلى البيت الأبيض إلى اليوم؟ صعب للغاية. طلعات ونزلات فجائية، تبدو ذات وقع ونفع في لحظة، ويظهر سريعاً أنّها زبد وغبار. لكن «الترامبية» تتحوّل إلى سمة عالمية أكثر فأكثر. كلّ ينتج نموذجه منها بمقياسه، وسياقه. «معسكر العقل» يميل أكثر فأكثر إلى الإنحسار في كل مكان. العقل هو المستهدف الأوّل في هذه الموجة الشعبوية المتعاظمة، والتي استطاعت أميركياً على ما يبدو تخطي كل محاولات عزل ترامب. القوى المنتمية إلى تراث العقل والإستنارة تجد نفسها محاصرة أكثر فأكثر. عليها أن تتعامل في نفس الوقت مع الوقائع كما تردها، وليس مع الوقائع كما تتخيلها. ليس المناخ مؤاتياً حالياً في العالم لتحقيق فتوحات في مجال الديموقراطية، لكن الضرورة تنظيم خط الدفاع عن العقل والتنوير على صعيد كل بلد، وبالأساس على صعيد المنطقة العربية. الخطر لا يطاول الحريات فقط، ولا لقمة العيش فقط، الخطر يهدّد، وبعمق، أساسيات العقل نفسها. طبعاً، يستفيد هذا المناخ الشعبوي، المزايداتي، الترامبي، في كل مكان، من إخفاقات وتردّدات أخصامه، وأصحاب الإرادات الطيبة الفاقدة لشروط تمكينها. يستفيد من أوهام كثيرة، منها أن الديموقراطية ستبقى تتوسع في البلدان، موجة في إثر موجة، لا تقاوم، ومنها أن إقتصاد السوق يحمي نفسه بنفسه ولا حاجة له إلى ضوابط، ومنها أنّ التخليط بين الثقافات هو روح العصر الذي لا يترك مجالاً لأي انطوائية وانعزال. كلّ هذه الأوهام تهافتت تباعاً، لكن هذا لم يأت بعالم أكثر تمسّكاً بالعقل، أكثر اقتراباً في السياسة والاقتصاد والثقافة مما نراه في الفتح الكيميائي المكرّم بنوبل، من انجازات «التطو ر الموجّه». أبداً، العشوائية وتخلّع المعايير في العلاقات الدولية والإقليمية يفرض نفسه كمعطى مهيمن. وسط كل هذه المناخات، تجري الانتخابات البرازيلية، ويبدو أن الأوفر حظاً فيها هو جائير بولسونارو، الملقب بالأسطورة «بولسوميتو»، الذي يرفع شعارات يمينية متطرفة وعنصرية، ونوستالجيا للديكتاتورية العسكرية، ويستفيد من اخفاقات تجربة اليسار في هذا البلد مع لولا القابع بالسجن حالياً بتهم الفساد، والذي يترشح «بالنيابة عنه» فرناندو حداد – من أصل لبناني - الذي يبدو أنّه أقل حظاً.

«التطوّر الموجّه»، سمة الكيمياء في هذا الزمان. اللاتطور العشوائي سمة السياسة، يكاد يكون في كل مكان.