السنة الفائتة، نشرت «الجمهورية» مقالة لي بعنوان «معلومات وإحصاءات رسمية بدون رقيب» (20 كانون أول 2017) عرضت فيها بعض الأرقام الرسمية المتضاربة، بخاصة تلك المتعلقة في مجال القوى العاملة والبطالة.
 

بالنسبة الى مستوى البطالة لسنة 2016 مثلاً، تراوح معدل البطالة، بحسب الأرقام الرسمية، ما بين 10 بالمئة (مديرية الإحصاء المركزي) و25 إلى 33 بالمئة (وزير العمل في حينه) ووصلت، في أحد تصريحات الوزير نفسه، إلى مليون عاطل عن العمل، ما يعني 66 بالمئة من القوى العاملة. الأنكى هو أنه ليس بين هذه الأرقام رقماً واحداً مبنيا على مسح ميداني للبطالة، إذ ان آخر مسح رسمي حصل سنة 2009. (قام البنك الدولي، في أيلول 2017، بمسح ميداني جدي للبطالة في شمال لبنان، حيث التجمع الأكبر للنازحين السوريين، إضافة إلى كون المنطقة متخلفة اقتصاديا، توصل فيه إلى أن مستوى البطالة هناك يبلغ 9 بالمئة). هذا التلاعب بالأرقام، في مجال البطالة، التي تعتبر/ في معظم بلدان العالم ركيزة أساسية في وضع السياسات الاقتصادية والمعيشية، غير مبرر، ولو لأهداف شعبوية. لم يتغير الحال، بالطبع، منذ ذلك الحين بل، بالعكس، كثرت الارقام الرسمية المسيسة للبطالة لتصل إلى ممثلي القطاع الخاص.

في هذه المقالة سأشرح ما هو التحديد العلمي للبطالة، وما هي أنواعها، وكيف يتم قياسها، لأصل في النهاية إلى ماهية مكونات سياسة المحاربة المطلوبة واهميتها.

تعريفات البطالة

العاطل عن العمل، في التحديد المعمول به عالمياً، هو، بشكل عام، كل شخص بالغ من العمر 15 سنة وما فوق وتنطبق عليه ثلاث مواصفات: أولا، أن يكون لا يعمل. ثانيا، يبحث جديا عن عمل. وثالثا، مستعد للبدء بالعمل خلال مدة قصيرة إذا ما عرض عليه عمل مناسب.

هذا التعريف المعمول به دولياً، والذي يهدف إلى تسهيل المقارنات بين الدول، يحدّد البحث الجدي عن عمل، بتقديم طلب للعمل، أو بوضع إعلان في جريدة أو ما شابه. 

يُجمع الإحصائيون على أن هذا التعريف، وإن كان ذات منفعة في عملية المقارنة بين الدول، ليس كافيا لوضع سياسات ناجعة في محاربة البطالة داخل الدولة، ولذا أدخلوا تعديلات عليه للاستعمال المحلي أهمها اثنان: الأول هو أن يشمل تعريف العاطل عن العمل أيضاً كل الأشخاص الذين يبحثون عن عمل لكنهم لم يفعلوا ذلك خلال الشهر السابق للمسح، لأنهم يئسوا أو اعتبروا أنهم عملوا المستطاع («المحبطون»). والثاني هو أن يشمل التعريف أيضاً الأشخاص الذين يعملون بشكل متقطع أو الذين يعملون بدوام جزئي لعدم وجود عمل بدوام كامل («المهمشون»).

الفارق بين أرقام البطالة بحسب هذه التحديدات الثلاثة قد يكون كبيراً جدا، خاصة عندما تطول مدة البطالة. 

أنواع البطالة

هناك ثلاثة أنواع رئيسية للبطالة. النوع الأول هو أن يكون هناك عاطل عن العمل وهناك وظيفة تتناسب مع مؤهلاته ولكن الطلب والعرض لا يلتقيان إلا بعد مدة طويلة يتم خلالها مسح البطالة، وهذا النوع من البطالة يسمى «البطالة الاحتكاكية.» النوع الثاني هو أن يكون هناك عاطل عن العمل وهناك وظيفة متاحة ولكن مؤهلات طالب الوظيفة لا تتماشى مع متطلبات العمل، كأن يكون هناك طلب على عمل أستاذ مدرسة بينما طالب العمل دون الشهادات المطلوبة، وهذه الحالة تسمى «البطالة التقنية». الحالة الثالثة، وقد تكون الأهم، هي «البطالة البنيوية أي أن يكون عدد العاطلين عن العمل يتجاوز عدد الفرص المتاحة.
بعد هذا العرض المقتضب لأبعاد مسألة البطالة ما هي مكونات السياسة الشاملة الكفيلة بمحاربة البطالة بشكل عقلاني وفعال، خاصة في لبنان؟ 

الخطوة الأولى في مثل هذه السياسة الحصول على المعلومات الإحصائية الضرورية لمعرفة من هم العاطلون عن العمل وما هو نوع البطالة الذي ينطبق على كل مجموعة من العاطلين عن العمل. مسوحات القوى العاملة قد تجري كل سنة أو سنتين، أما مسوحات البطالة فيجب أن تجرى مرة كل ثلاثة أشهر على الأكثر، لأن مستويات البطالة تختلف بين فصل وآخر من السنة. كما يجب أن يمول هذا البرنامج من موازنة الدولة بشكل روتيني لا يعتمد على حسنة من المنظمات الدولية لتمويله كما هو الحال اليوم. 

ولأن سياسة الدولة في محاربة البطالة تختلف بحسب نوع البطالة وخصائص كل مجموعة من العاطلين عن العمل، يجب أن تعالج كل أنواع البطالة الرئيسية. فإذا كانت البطالة «احتكاكية»، فالمشكلة الأساسية تكمن في عدم فعالية سوق العمل الذي يختصر بمدى فعاليته مدة البحث عن عمل التي تبلغ حاليا في لبنان أكثر من سنة. سياسة تحسين فعالية سوق العمل تحتوي مثلاً على تشجيع وكالات التوظيف، بما في ذلك المؤسسة الوطنية للاستخدام. الطرق الِأخرى لتفعيل سوق العمل تشمل معارض للتوظيف، داخل وخارج المدارس والجامعات، ومنشورات دورية متخصصة وغيرها.

البطالة التقنية تتطلب بدورها إعادة تأهيل في كثير من الأحيان، بهدف تطوير قدرات العاطلين عن العمل لتتناسب مع المتطلبات المستجدة في سوق العمل.
أما البطالة البنيوية فإنها تتطلب خلق فرص عمل إضافية وهذا يحصل من خلال زيادة الاستثمارات في البلد ورفع نسبة النمو الاقتصادي. إنما يجب الأخذ بالاعتبار هنا بأن الطلب على اليد العاملة يختلف بحسب نوع الاستثمار. بعض هذه الاستثمارات يتطلب يداُ عاملة مكثفة أكثر من من غيره كما أن بعض الاستثمارات قد يتطلب يداُ عاملة غير متوافرة محلياُ فيتم استيرادها من الخارج. وهذا ما حصل مثلاً خلال فورة الإعمار التي قامت بعد الحرب اللبنانية والتي نتج عنها، قسراً إلى حد ما، استيراد ما يقارب النصف مليون عامل من الخارج، معظمهم من السوريين. 

بالمقابل، نحن نعيش في بلد لا يعلم كم هو عدد سكانه ولا عدد قواه العاملة ومستوى البطالة فيه والمشكلات الإنسانية الأخرى، وحيث أرقام البطالة وجهة نظر تتأثر بالموقع السياسي للمسؤول الذي يصرح بها، ترتفع عند الذين يريدونها مرتفعة لهدف شعبوي وتنخفض عند الذين يريدون تلميع صورة البلد في الخارج والداخل، بينما لا يوجد هناك مسح للقوى العاملة أو البطالة منذ ما يقارب العشر سنوات. شعبوبة الأرقام، خاصة في ما يتعلق بالسكان والعاملين ومشاكلهم، وصلت إلى القطاع الخاص وأصبحت الناس لا تصدق، حتى الأرقام الصحيحة، وهي قليلة أصلاً. المهم أيضاً أن نعلم أن سياسة محاربة البطالة يجب أن تأخذ بالاعتبار ضرورة أن تشمل التحسين في أداء سوق العمل، والتدريب، ومواءمة أفضل بين المخرجات التعليمية ومتطلبات سوق العمل، وسياسات تفضيلية للاستثمارات التي تستعمل كثافة اليد العاملة المحلية وتتعامل بذكاء مع مشكلات «المهمشين» و«المحبطين» من العاطلين عن العمل.