بعيداً عن المبالغة، وبكثير من الواقعية، فإن الزعيم الإيراني آية الله علي خامنئي، يكاد يُشبه الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف، في فترته الأخيرة التي وضعت اللبنة الأولى لنهاية الاتحاد السوفياتي، ومجيء ميخائيل غورباتشوف الذي باسم «البريستوريكا» قاد بلاده منافسة الولايات المتحدة الأميركية نحو التفكك ووضع نقطة نهاية لحالة القطبَين، التي تحكمت بالعالم في حرب باردة اشتعلت خلالها مائة حرب بالوكالة.

في خطاب «التعبئة» الذي شارك فيها مائة ألف شاب «تماماً» كما حصل في بدايات الحرب بين العراق وإيران، عندما تجمّع مائة ألف مقاتل للتوجه إلى الجبهة ولوقف التقدم العراقي.. في هذا الخطاب نجح المرشد في الجمع بين الانتصار والهزيمة، تماماً كما الجمع بنجاح بين الشتاء والصيف على سطح واحد.

في هذا الخطاب الطويل، أكد المرشد تماماً كما السكرتير الأول للحزب الشيوعي السوفياتي، «أن أميركا هُزمت في العراق وسوريا ولبنان وباكستان وأفغانستان». بريجنيف كان يُردّد ليل نهار الصيغة نفسها وهو يدفع بواسطة فيدل كاسترو الشباب الكوبي نحو الموت في غابات وصحارى أفريقيا وأنحاء أخرى مختلفة في العالم. وبين إعلان انتصار وانتصار كان بريجنيف يكشف عن تصنيع سلاح جديد لا يُقاوم. هكذا فعلت أجهزة الإعلام الإيرانية بالإعلان عن «تصنيع غواصتين جديدتين» في وقت تكشف فيه الرادارات الإيرانية وتوابعها عن حركة كل غواصة في «الخليج الفارسي».

لكن هذا كله مهم جداً خصوصاً أن التواجد في المنطقة والسلاح الصاروخي هما من «عناصر الاقتدار الإيرانية». لكن المأزق الذي يعقّد أمور كل هذه القوة وهذا الانتشار تقع في «أنه توجد مشاكل اقتصادية وضائقة معيشية لقسم كبير من ذوي الدخل المحدود في البلاد». هذا الاعتراف من خامنئي، مهم ومتفوّق على بريجنيف وكل المكتب السياسي للحزب الشيوعي الحاكم الذين لم يجسروا على الكلام عن معاناة الشعب في الحصول على القليل مما يحتاجه أو حتى الذي يتخّيله.

هذا «الاقتدار» الإيراني، غير مؤكد لأنه في كثير من الحالات يكاد يشبه «الجبنة الفرنسية» المتعددة الثغرات. لأن أميركا لم تُهزم ولا إيران انتصرت. واشنطن موجودة في أفغانستان وباكستان وسوريا والعراق، ولم تخرج منها. وهي موجودة عسكرياً مثلما هي موجودة سياسياً. وإن كانت المسألة نسبية بين هذه الدولة وتلك. وإذا كانت إيران موجودة في لبنان عبر «حزب الله» فإن هذا لا يعني انفرادها بالقرار، عكس ما يقوله المعارضون لها والموجودون بكثافة وبعمق على مساحة المجتمع اللبناني المتعدد الانتماءات والتوجهات، لذلك كله فإن البناء على أساس أن أميركا قد هُزمت سيكون بناء على رمال متحركة، يشبه البناء على أن إيران هزمت صدّام حسين وعاقبته، في حين أن هزيمة صدّام وقعت على يد الجيش الأميركي المدعوم بجيوش دول كثيرة بينها الجيش السوري عندما كان حافظ الأسد رئيساً لسوريا.

بعيداً عن الخطابات الخامنئية – البريجنيفية، فإن في إيران «عقلاء» يعرفون كيف تُدار شؤون الدولة بخطابات باردة تحفظ لإيران «خط الرجعة». من ذلك أن جواد ظريف وزير الخارجية قال «إنني مستعد دوماً للحوار»، مضيفاً وهو حقّ له: «الحوار بحاجة إلى الاحترام المتبادل وهو يبدأ باحترام الالتزامات». طبعاً أميركا هي التي لم «تحترم التزاماتها» عندما أسقطت الاتفاق النووي. ولكن السؤال هل احترمت إيران التزاماتها عندما صعّدت من التصنيع الصاروخي وتسليح الحوثيين بكل ما تنتجه من أجل إطالة حرب استنزاف في اليمن من دون تكلفة لها حالياً؟

في قلب كل ما يجري مشكلة أساسية، وهي أن لا أحد يمكنه تحديد السياسة الأميركية على المدى القصير فكيف بالمدى الطويل؟ وهذا نابع من أن لا أحد يعرف ماذا يريد الرئيس دونالد ترامب، إلى درجة أن الرأي السائد «أن ترامب نفسه لا يعرف ماذا يريد ترامب». وما هذا سوى لأنه يدير السياسة الأميركية بعقلية «الكاوبوي» و«تاجر العقارات» في وقت واحد. ولذلك فإنه لا يتورّع أبداً عن الابتزاز والنّصب بقوّة السلاح. ولولا أن النظام الأميركي يسمح رغم سلطات الرئيس بوجود مراكز قوى تخالف الرئيس فتتعامل من موقع الحفاظ على مصالح الولايات المتحدة الأميركية بما يجب من مواقف.

منطقة الشرق الأوسط نقطة أساسية على خريطة التجاذبات والمماحكات القائمة بين تراجع أميركي موقت لأنه مرتبط بـ«سياسة ترامبية» غير مستندة إلى استراتيجية واضحة ذات بناء متكامل، وهجوم روسي مدعوم من الصين، بالاعتماد على قوى أقليمية بحجم إيران الطموحة، التي مهما بلغت من القوّة فإنها تبقى متحرّكة وفاعلة تحت «الخيمة» البوتينية.

فالأمر بالأساس لـ«القيصر» الصاعد، الذي يمر في مرحلة البناء المستند إلى وقائع الماضي والخبرات المكتسبة، من دون قلق من الوقوف على مفترق طرق حسّاس وخطير لبلاده، كما هو حاصل في إيران مع المرشد آية الله علي خامنئي.