الشيخ ياسر عودة، يخوض اليوم معركة قاسية في سبيل تثبيت العقلانية والموضوعية ونزع العصبيات الموروثة
 

أولاً: الشيخ عودة والاستلهام "النيتشوي"

يقوم الشيخ ياسر عودة هذه الأيام بانتفاضة معرفية في نطاق العقيدة وما يتفرّع عنها من عبادات ومعاملات وسلوكيات وإشارات ورموز ومعانٍ، فهو يُخضع الروايات والأخبار والتفاسير لنقدٍ تاريخي وتمحيص وتجريح وتعديل، ورفض كل ما لا يقبله عقل ولا تُقرُّه شريعة مُسوّغة، ويكاد منهج عودة أن يُقارب منهج الفيلسوف الألماني "نيتشه" في منهجيته الجينالوجية عندما كشف عن أصل الأخلاق المسيحية، فلكي تتحرّر من شيءٍ ينبغي أن تعرف أصله وجذوره الأولى، أو كما تقول العامّة: أن تعرف "أصله وفصله"، أي كيف تشكّل وانبنى لأول مرّة، والمعلوم أنّ حُرّاس العقائد والارتوذكسيّات يحاولون جهدهم طمس لحظات انبثاق العقائد لكي يُخفوا تاريخيّتها ، لذا وفي كلّ مرّة يتقدم أو ينهض مُفكّر جديد، يُحاول أن يحفُر أو يُنقّب عن أصل الأشياء (أي أصل العقائد الخاصة)، فإنّه يجد نفسه وكأنّه يرتكب فضيحة أو ينتهك المحرمات، كلّ مفكّر كبير كان يُمثّل فضيحة في عصره، شذوذاً عن القاعدة، خروجاً على المألوف، لذا وكلما اقترب في عملية الحفر والتنقيب من منطقة الحقيقة، فإنّه يجد كل القوى التقليدية والمحافظة والمُتضرّرة تنهض في وجهه دفعة واحدة، كي تمنعه من الوصول إلى أهدافه، ويصرخ الجميع: حذار إذن الاقتراب من الحقائق قبل الأوان.

إقرأ أيضًا: إبراهيم الأمين يُخالف خليل، الامبريالية وراء المأزق الاقتصادي

ثانياً: على خُطى القدريّين الأوائل...

يبدو أنّ الشيخ عودة يسير على خُطى "القدريّين الأوائل"، وهؤلاء يُطلق عليهم الدكتور علي سامي النّشار  لقب أصحاب الإرادة الحُرّة في الإسلام، وقد وُصموا من قبل السلطة الأموية بالقول بالقدر، وبدأت السلسلة مع معبد الجهني الذي قُتل على يد الحجّاج عام 80 للهجرة، وكان امتداداً لمدرسة الصحابي أبي ذرّ الغفاري، وبرز في محاربة الظلم والطغيان في عهد بني أميّة، كان الخلفاء الأمويّون يُبرّرون مظالمهم باسم العدل الإلهي، فقاوم الجهني هذا الظّلم المموّه بالإرادة الإلهية، فعذّبه الحجاج وقتله، إلاّ أنّ آراءه سرعان ما انتشرت، وتابعهُ على ذلك عمرو المقصوص، وكان على ما ظهر مُعلّماً للخليفة الأموي معاوية الثاني بن يزيد بن معاوية، وكان لشخصيّته أثراً كبيراً على الخليفة الذي اعتنق مذهب الإرادة الحرة، وهو الذي أشار عليه: إمّا أن تعدل أو تعتزل، فخطب معاوية في الناس فقال: "إنّا بُلينا بكم وابتُليتُم بنا، وإنّ جدّي معاوية نازع الأمر من كان أولى منه وأحقّ، فركب منه ما تعلمون حتى صار مرتهناً بعمله، ثمّ تقلّده  أبي، ولقد كان غير خليقٍ به، فركب ردعه واستحسن خطأه، لا أحبُّ أن ألقى الله بتبعاتكم، فشانكم وأمركم، ولّوهُ من شئتم" ثمّ نزل واعتزل الناس، وقيل له: استخلف فأبى، وشغر منصب الخلافة، فوثب بنو أمية على عمرو المقصوص وقالوا: أنت أفسدته وعلّمته، ثمّ دفنوه حيّاً، فكان الشهيد الثاني للمذهب "القدري".

إقرأ أيضًا: حسن خليل..وليّ فقيه جديد يتنبأ بسقوط الدولة

تبع المقصوص بعد ذلك غيلان بن مسلم الدمشقي الذي أمر الخليفة هشام بن عبدالملك بقطع يديه ورجليه مع صاحبه المدعو صالح، وتبعهم الجعد بن درهم، الذي يُنسب له القول بخلق القرآن، أحد أهم عقائد المعتزلة، وقام والي هشام على الكوفة خالد بن عبدالله القسري بإحضاره يوم أضحى، وربطه في أسفل المنبر، وصلّى صلاة العيد، وخطب قائلاً في آخر خطبته: انصرفوا وضحّوا بضحاياكم، تقبّل الله منّا ومنكم، ، فإنّي أريد أن أُضحّي اليوم بالجعد بن درهم فإنّه يقول: وما كلّم الله موسى تكليماً، ولا اتّخذ إبراهيم خليلا، تعالى الله عمّا يقول علُوّاً كبيرا، ثمّ نزل وحزّ رأسه بالسكين في أصل المنبر. 

كانت "فضيحة" الجعد ما راعهُ في زمانه من أفكار الحشو والتّشبيه والتّجسيم، فرأى أنّ التنزيه لا يتُمُّ إلاّ بتأويل الآيات التي لا يمكن أن يُحمل معناها على ظاهرها، فكان أول من أراد تحكيم العقل في كلّ شيء، واعتنق الجهم بن صفوان آراءه، وبقي الجعد أول من اعتنقوا التفسير العقلي في الإسلام.

الشيخ ياسر عودة، يخوض اليوم معركة قاسية في سبيل تثبيت العقلانية والموضوعية ونزع العصبيات الموروثة، ودفن الاحقاد المبثوثة في الروايات، وجمع كلمة الحقّ مع موقف الصدق والجرأة، علّ السفينة ترسو على شواطئ الإسلام الرحبة، وما أنجزته الإنسانية من تقدُّمٍ وغنىً وحضارة وتسامح ورحمة.