«اللاحدث» هو الحدث السياسي بامتياز، ومنذ فترة باتت غير قصيرة، يمكن أن يختلف المرء في تحديد متى بدأت. الطارىء على هذا «اللاحدث» المتواصل من أشباح حوادث ناقصة وتائهة ومتثائبة، لا يكفي لتبديد صفته الأساسية هذه. ليس معنى هذا أن كل شيء ساكن، ولا شيء يتحرّك، أو يتبدّل، بلى، هناك أمزجة عند الناس ينبغي الاعتناء برصد سماتها وحيثياتها يوماً بيوم، مثلما هناك جملة مؤشرات اقتصادية واجتماعية يُفترض أيضاً التنبّه لها، ولاتجاهها الإجمالي، كما هناك إشارات تتعلّق بلبنان من خارجه، وفي إقليمه، كل هذا يتحرّك، يتبدّل، ومن الضرورة متابعته وملاحقته، إلا أن كل هذا يترجم فترة طويلة من «اللاحدث» داخلياً، ليست عرقلة تشكيل الحكومة سوى انعكاس جزئي لها.

«اللاحدث» أوسع وأشمل من المشكلة الحكومية، ويتجاوز السياسة، إلى الثقافة والفن والمعاش اليومي. لم يكن البلد «لاحدثياً» إلى هذا الحدّ في أي فترة سابقة من تاريخه الحديث. البعض يبحث عن التفاؤل في هذا «اللاحدث»، رغم المظهر العام للكبوة، فيرى فيه على الأقل استقراراً، وتركيبة لا تزال غير مسدودة الشرايين بالكامل، وأموراً محصّلة لا بدّ من الحفاظ عليها. البعض الآخر، يدفع بالتشاؤم بعيداً، بحيث يرى إلى تمدّد «اللاحدث» على أنه قرين الموت السريري، أو الضمور. لكن «اللاحدث» لا هو «استقرار» ولا هو «موت سريري» أو ضمور. إنه قبل أي شيء آخر أزمة تعيش هي نفسها أزمة وصف نفسها، وإيجاد التعبير الملائم عن طبيعتها الراهنة، وتتخبّط بين الأوصاف والمرايا، من دون أن تقوى على «الحدث»، من دون أن تبلغ ذروتها، من دون أن تتحلّل أو تؤول إلى نهاياتها.

يوم كانت البلاد لا تزال منقسمة، بشكل صاخب، وضارٍ، لكن أيضاً لامتناسب، ولامتوازن، بفعل امتلاك فريق للسلاح دوناً عن الفرقاء الآخرين، الذين تخلّوا عن سلاحهم أو تأسّسوا على قاعدة عدم امتلاكه، يوم كانت البلاد لا تزال منقسمة إلى «8 و14»، كانت لا تزال هناك أحداث. منها الأحداث الأليمة والمريرة، منها الأحداث المتوقفة في منتصف الطريق، والأحداث المهدورة، لكن الزمن كان للأحداث، والأزمة وقتها، لأن تاريخ البلد، منذ عقود طويلة ينقسم إلى سلسلة لا آخر لها، على ما يبدو من الأزمات، كانت أزمة يمكن أن تجد تعبيراً مشتركاً عن نفسها، من جملة التعابير المتعارضة التي تخوض الصراع ضد بعضها البعض بعدها. كانت أزمة ما بعد انسحاب الوصاية السورية، وكيفية تدبر الأمور في مرحلة ما بعد الوصي، هل بالوصاية عن بعد، أو بوراثة الوصاية من قبل الأقرب لها في الداخل، وهل ينفع التوافق بين الفرقاء كمنصة دائمة للحكم وبديل عن الوصاية، وكتحضر للانتقال من حال الوصاية إلى حال الرشد، أو أن المطلوب الاتفاق على قوانين للّعبة، لها مقدار من الثبات، ولا تتبدّل عند تبدّل أصغر ظرف، وتأخذ طابعاً مؤسساتياً.

زاد منسوب انعدام التوازن بين الاخصام في هذه الأزمة، بمعية معادلات السلاح وليس وحدها، ثم «صدّر» اللبنانيون تركيزهم إلى المحيط، مع الربيع العربي، وخصوصاً مع الثورة والحرب في سوريا، وأكثر فأكثر مع تدخّل «حزب الله» فيها، والانقسام الداخلي حول الثورة والحرب وحول هذا التدخّل. علّقت الاأداث الداخلية حينها، على محك الأحداث الإقليمية، ثم بانتظار المزيد من الأحداث الإقليمية، ثم لم ينتظر البلد عودة الحزب من القتال في سوريا، وأخذ اللبنانيون يعودون إلى قضايا داخلهم، بين شغور السنتين ونصف السنة، فالتسوية الرئاسية، والانتخابات، والمؤشرات حول الوضع الاقتصادي، والالتزامات الإصلاحية المقرّة في مؤتمر «سيدر»، من دون أن يكفل كل هذا عودة «الأحداث» إلى شاشة أخبارهم، إلا كأحداث ناقصة، هلامية، غير منفصلة عن بعضها البعض، غير مبلورة. أخبار فاقدة لأحداثها، أحداث من دون كفايتها من الأخبار.

وبعد؟ حتى الانتخابات النيابية التي هي، في أي نظام سياسي له حظ، أي حظ كان، من الديموقراطية، بمثابة الحدث السياسي بامتياز، فشلت، سواء بسبب القانون والتحالفات التي يقتضيها، أو بسبب السقوف والسقوف الذاتية الموضوعة، من أن تفتح الطريق إلى «الحدث»، الحدث الذي قبله شيء وبعده شيء آخر. مرة جديدة، العرقلة في تشكيل الحكومة جاءت لتترجم هذا، على طريقتها. «تصريف الأعمال» بات أشبه بنمط لبناني شامل.

الخروج من هذه الدائرة، «اللاحدث»، لا يمكنه أن يكون بتعويذة، ولا بكلمة سرّ. الخروج من نمط لبناني شامل «تصريفي للأعمال» لا يكون باستعادة أعمال ماضية أو بتدبيج برامج وحلول، ولا بتوهّم أحداث فارقة، سواء كان ملحمية أو كارثية، قد تأتي أو لا تأتي. فالأزمة ليست أزمة امتناع أحداث، إلا بقدر ما هي أزمة نضوب أو استهلاك أفكار، وأزمة أشخاص، وأزمة مجموعات، وأزمة مؤسسات. أزمة شاملة بحيث تمسك على بعضها البعض ولا تبقي مساماً للحدث. مع هذا، يمكن أن تحدث الأحداث في أي وقت، ومن دون همّة أحد من الفاعلين السياسيين أو من الحالمين بالخلاص، وإلى أن يحصل هذا، فإن زمن «اللاحدث» سيتواصل، بأحداثه الناقصة، وحوادثه المتفرقة، وتوتراته المتقابلة، ومناخ «التكهّنات» والتخمينات.