حمل رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون إلى الجمعية العمومية للأمم المتحدة فكرة إنشاء "الأكاديمية الدولية للتلاقي والحوار" التي تقوم، وفق كلماته، على "تعميم ثقافة السلام في العالم عبر تقارب الشعوب بدل أن تبقى متباعدة إما بسبب جهلها لبعضها البعض أو بسبب خوف الإنسان من الآخر".

فكرة نبيلة، من دون شك، وقد سبق ورفع لواءها كثير من الحالمين في هذا العالم الذي يجتاحه جنون الأنظمة والتطرف والقادة. وثمة من كان قد طرح، قبل سنوات، أن يعهد بهذه المهمة إلى منظمة "اليونسكو".

ولكن أي مبادرة من أي نوع كانت، وحتى تجد الزخم الكافي لترجمتها ميدانيا، تفترض أن يتمتع حاملها بمزاياها، بمعنى أن يكون قد نجح في بلاده بإقامة تجربة مماثلة.

بمعنى آخر، لا يستطيع، مثلا، بشار الأسد أن يطرح على العالم إنشاء "الأكاديمية الدولية لحل المشاكل وديا بين الأنظمة وشعوبها"، كما لا يستطيع مرشد الجمهورية الإيرانية علي خامنئي أن يحمل لواء إنشاء "الأكاديمية الدولية لتعميم العلمانية في العلاقات بين دول الجوار".

وانطلاقا من هذا الفهم البديهي للصلة الجوهرية القائمة بين مضامين المبادرة، من جهة وبين من يطرحها، من جهة أخرى، فهل أن عون يتمتع بالأهلية الواجبة حتى ينادي بـ"الأكاديمية الدولية للتلاقي والحوار"؟

لن نعود في المناقشة إلى تجارب قديمة خاضها اللبنانيون مع رئيس جمهوريتهم الحالي، بل نكتفي بقليل من الحاضر.

من الواضح اليوم أنه لم يرفع يوما شعار "التلاقي والحوار" إلا بهدف تحقيق طموحه المتجذر، أي الوصول إلى قصر الرئاسة في بعبدا.

من بين أدلة اللبنانيين على ذلك، يمكن التوقف عند ثلاثة ملفات صارخة:

أولا، إن تفاهمه مع حزب "القوات اللبنانية" الذي سبق وخاص معه حربا طاحنة ومدمرة ومكلفة، يوم كان لا يزال ميليشيا مسلحة، انتهى بعيد وصوله إلى القصر الجمهوري. ويدفع لبنان، حاليا، من بين ما يدفعه، ثمن وقوف عون وراء صراع يهدف إلى تحجيم "القوات اللبنانية" كتمهيد محتمل للانقضاض عليها، عندما تكون الظروف مواتية.

ثانيا، إن التسوية التي عقدها عون مع حزب "المستقبل" الذي يترأسه سعد الحريري، الرئيس المكلف تشكيل الحكومة، قد انتهت مفاعيلها المعنوية، على اعتبار أن القواعد الشعبية، وبعد فترة تهدئة، عادت إلى اشتباك انقسامي قد يكون في مفاعيله الحقيقية أسوأ بكثير من فترة ما قبل التسوية إذ إن هذا الموضوع كاد، لولا تدخل الحريري، أن يأخذ أبعادا طائفية شبيهة بتلك التي أسست للحرب الأهلية واستمرت حتى التوصل إلى اتفاق الطائف.

ثالثا، إن طريقة تعاطي "صاحب مبادرة الأكاديمية الدولية للتلاقي والحوار" مع الحزب التقدمي الاشتراكي، الممثل الشعبي ـ بغالبية كاسحة ـ للطائفة الدرزية، دفع البعض إلى الاعتقاد بأن الزمن توقف عند عون في "سوق الغرب"، وهي البلدة التي خاض فيها عون، وكان رئيسا لحكومة عسكرية مختلف على شرعيتها، والحزب الذي كان لا يزال ميليشيا، في العام 1989، أعنف المواجهات العسكرية. ومن يتابع الاشتباكات السياسية التي تندلع، بين الفترة والأخرى، قبل تدخل تهدوي من زعيم الحزب وليد جنبلاط، يدرك المخاطر الجاثمة على "خطوط التماس" النفسية.

إن سياسات عون اللبنانية التي تنطلق من شعار "الرئيس القوي"، تقوم على استرضاء الفصيل القوي في لبنان، وهو "حزب الله"، على الرغم من أن الأدوار الهدامة لمفهوم الدولة المركزية، كونه ميليشيا مسلحة دائمة، في مقابل استجرار القوى السياسية غير المسلحة، إلى المواجهة.

إن هذه السياسات، وهي معتمدة علنا منذ شباط/ فبراير 2006، أدخلت لبنان في "مأزق اليأس"، فغالبية اللبنانيين طالبة هجرة وتشك بمستقبل البلاد وتئن من تعميم الفوضى في المرافق والمرافئ العامة، ومتيقنة بأن دولتها منهوبة، وبأن حكامها فاسدون، وهي تقف على عتبة ثورة وحده الله يعلم متى تندلع شرارتها.

بناء عليه، فإن مبادرة عون، قبل أن تصبح "أكاديمية دولية" عليها أن تنطلق "ابتدائية لبنانية"، فلبنان الحالي يصلح نموذجا لأي شيء باستثناء السلم والتلاقي والحوار.