من يمثل العراق في رؤية الإعلام العالمي هو الولايات المتحدة وتنظيم الدولة الإسلامية الإيرانية، وما بينهما مهزلة لأحزاب وزعماء عملية سياسية يدركون أحجامهم وأدوارهم وما ارتكبوه من سلسلة حماقات بحق شعب لا يمكن أن ندعوه شعبهم.
 

النظام السياسي في العراق نظام مشهود له بالعمالة وبتعقيدات وإفرازات العقم الوطني التي ألقت بظلالها على تصرفاته وسلوكه، بما يمكن معه تبرير الإسراف في السرقات والاستحواذ على المال العام لضمان عدم تكرار وقائع تعايشوا معها في فترات زمنية معينة، رغم أن البعض ولدوا وفي أفواههم فائض من ملاعق الفضة والذهب.

غير أن النظام انتقل، بأحزابه ومصالحه، إلى التكيف مع إرادات تتجاوز التصفيات الجسدية في الآلاف من الاغتيالات المتفرقة، والتي عملوا عليها كوظائف يومية على غرار العمليات الممنهجة في أجهزة القمع، حيث التُّهم ملقاة على قاتل مجهول، في سجل بصفحات لا تحصى ولا تعدّ من تاريخ الجرائم في العراق.

توصيفات الإدانة لتلك الأحزاب بالعمالة للنظام الإيراني والاحتلال الأميركي أو باللصوصية والفساد والطائفية والتخلف؛ بعد تجربة ردات فعلهم خلال 15 سنة، صار من الواضح جدا تعاطيهم معها بمنطق “العجين والطين”؛ فنحن غارقون مع توصيفاتنا في اللياقة والأدب والحشمة قياساً إلى صرخات شعبنا وأهلنا من الشمال إلى الجنوب واستغاثاتهم طلباً لطعام أو ماء أو فتات كرامة باقية بعد موجات من الإرهاب والميليشيات وعصف أسوأ نظام ديمقراطي، تفوق على أعتى الأنظمة الدكتاتورية في ممارساته وخلق تبريرات تعذيبه وغدره، وفرحه بمآسي الشعب عامة، بما لا يدع ثغرة نقد لأي تقييم منصف يعتبر النظام خصماً وعدواً لا سبيل للتعايش معه تحت سقف وطن واحد. فالاختيار كالمفاضلة بين بقاء النظام السياسي في العراق أو بقاء الشعب.

بين الكوارث المتلاحقة يتبين العراقيون طريقهم للخلاص، فمن أراد الإبقاء على العراق عليه الاعتراف بالهزيمة والفشل، وأن يؤشر بسبابته وضميره على كارثة الكوارث ومصدر العوادم التي غطت النفوس والأرض باليأس وانعدام الثقة بالأمل والإنسانية والمستقبل.

سنة بعد أخرى وكلما توغلت الأحزاب في أمراض سلطة الاحتلال تمادت في اصطياد الشعب، لتتساكن معه بوعود جديدة، تلتف بها حول رقبته لأربع سنوات أخرى من تعبئة برامجها وشهية مشاريعها في سيل لعابها، الذي يشبه ما ينتابنا عند قراءة أو مشاهدة الروايات المقززة عن آكلي لحوم البشر.

مئة ألف إنسان مصاب بالتسمم في البصرة، المدينة التي لو تغنينا بها وبمجدها المعرفي والتراثي والحضاري والفني لما انتهينا، لكنها انتهت لقمة إحصائيات سائغة في فم الميليشيات والتخريب ومشروع التهديم الذي تكفلت به الأحزاب الإيرانية، وتركت البصريين سبايا للعطش والتلوث واحتمالات تفشي الكوليرا، أو أوبئة أخرى في أية لحظة. انتبهوا إلى أعداد النازحين من البصرة والأهوار ومدن جنوب العراق.

البصرة والموصل، ذروتا المأساة العراقية برمزيتهما، لا مكان لهما في الأمم المتحدة واجتماعات هيئتها العامة ولا مجلس أمنها الذي عقد جلسته الخاصة برئاسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، ولا في الإعلام العالمي المنهمك في حالة استذكاره للعراق، باستحضار خيبة الأمل الأميركية في الانتخابات الديمقراطية وتحالفات الكتل السياسية وترشيحات الرئاسات الثلاث، وبالمقابل انتصار المحور الإيراني في السباق إلى البرلمان أو رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء، أو نسبة أحزان الخسائر الأميركية والإيرانية في الاتفاقات.

ما يصدع الرؤوس هو هزيمة الإرادة الأميركية أو الإرادة الإيرانية أو انتصار أحدهما، حتى أن المخيلة ذهبت إلى أن حيدر العبادي رجل أميركا، بما يعني أن حزب الدعوة منشق إلى طرف أميركي وآخر إيراني، وأن التنسيق في الدعوة إلى اجتماع موسع لزعامات حزب الدعوة هو تقريب لوجهات نظر لمعسكرين لا ينبغي للاختلاف بينهما أن يفسد للود، العقائدي والطائفي والتاريخي القريب والأهم السلطة، قضية.

نكبة العراق تُختصر بما يلحق المشروعين الأميركي والإيراني من هزائم متفاوتة، وبما يجري من تهديدات وتسويات ومراهنات وشفافية أيضاً بعد العقوبات وأثرها في انصياع الملالي لقائمة الطلبات الأميركية، والعودة إلى طاولة التفاوض على الاتفاق النووي الذي يصفه الرئيس الأميركي بالاتفاق من جانب واحد.

التحذيرات من توجيه الحرس الثوري لضربة ميليشياوية ضد المصالح الأميركية في العراق، ارتقت على حد قول جون بولتن، مستشار الأمن القومي الأميركي، إلى إعلان حالة حرب؛ وطبعاً هذه الحرب ستجري على أرض العراق تحديدا، وفي مثل هذه الظروف التي يمر بها، أو على أي أرض عربية تسعى إيران أساساً لإلحاق الدمار بها باعتبارها منطقة استراتيجية وحزاماً لأمنها القومي وضربا لعصفورين بحجر واحد.

ماذا يعني ذلك بالإجمال إلا إهمال الشعوب في حومة تلك الخطابات الرومانسية عن الأمن والسلام والإخاء في نبرة رؤساء الدول الكبرى، وخاصة من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، والأدهى ما تحدث به الرئيس الإيراني حسن روحاني عن المظالم التي يتعرض لها نظامه، بما يمثله هذا النظام لشعب إيران، وبما يسعى إليه من نشر للسلام والعدل في المنطقة والعالم.

شعب إيران مغيّب عن منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة، رغم أن صوت المقاومة كان حاضرا خارج القاعة ليرمم بعض جروح الشعوب الإيرانية، لكن شعب العراق بجرائم الإبادة المسلحة والإرهاب والميليشيات والطائفية والفقر والجهل والأمراض وغياب التنمية والعطش والتلوث وإعدام بيئته الطبيعية، كان غائبا عن الحضور.

لأن من يمثل العراق وفي صلب رؤية الإعلام العالمي هو الولايات المتحدة الأميركية وتنظيم الدولة الإسلامية الإيرانية، وما بينهما مجرد مهزلة لأحزاب وزعماء عملية سياسية يدركون أحجامهم وأدوارهم وأموالهم وأصواتهم، وما ارتكبوه من سلسلة حماقات بحق شعب لا يمكن أن ندعوه شعبهم، لأن ذلك يجافي الحقيقة، وسيظلون مهما تغيرت جلودهم مختومين بالخيانة لتعاونهم مع المحتل في إذلال وطنهم الأم.

صناديق أو توابيت الموتى الانتخابية لا تشيعها إلى البرلمان إلا ذات الأحزاب والإعلام المرتبط بالأجندات والفتنة المذهبية. برلمان تعوّد العراقيون على رؤية مصيرهم القاتم في جلساته، فالعام والأغلب كتل طائفية وقومية وإثنية وعشائرية تظنها متوافقة على اختيار وانتقاء عبارات سحرية لشحن العداوات والكراهية والانقسام، كلما بردت نار الفصل العنصري المجتمعي وأسباب اتقادها المختلفة.

عندما يؤكد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في جلسة مجلس الأمن على أهمية التأمل في الانقسامات الدولية وتأثيرها في مستقبل العلاقات بين الشعوب والأمم، نترجل من صهوة الفوضى الضاربة في أعماق البلدان المصابة بالشعوذة الإيرانية لنتأمل مصير العراقيين بعد أن وسمت مشاريع الاحتلال الأميركي وتصدير فتنة الثورة الإيرانية النظام السياسي في العراق بأقسى وأخطر ما جاد به تاريخ الأنظمة السياسية التي تعتقد أن بإمكانها ترويض الشعوب بالقهر والتجهيل والإبادة.

لكن انظروا بعمق واستمعوا بإصغاء إلى تلك المقولات في مجلس نواب العراق، أو في تصريحات المسؤولين ولقاءاتهم الإعلامية، وكيفية استشعارهم قربَ القصاص في محاولات التنصل من تاريخ ولائهم المطلق للنظام الإيراني ومشروعه، أو من تاريخ استجداء ولائهم لاستقدام الاحتلال الأميركي.. الثورة تؤتي ثمارها بشتلات صغيرة، رغم الكواتم وأسلحة الغدر والمناورات واستهداف كل ما يستحق الحياة وجميل في العراق.