كل التواريخ التي وضعت لتأليف الحكومة سقطت تباعاً، فيما هناك من بدأ الترويج أنّ «حزب الله» يتجه إلى ممارسة ضغوط جدية على الوزير جبران باسيل للتراجع عن سقوفه العالية، تمهيداً لتأليف حكومة قبل بدء تطبيق العقوبات الجديدة على إيران في 4 تشرين الثاني المقبل، علماً انّ «الحزب» أعلن بوضوح وعلى لسان أمينه العام ان «لا حكومة في الأفق».
 

صحيح انّ البلد انشغل في الأيام الأخيرة بالجلسة التشريعية وما رافقها من إقرار قوانين وسجالات على ضفافها وهامشها، ولكن الطبق الرئيس ما زال الحكومة وسيبقى إلى حين تأليفها، فيما لا يبدو انّ أحداً يملك ترف تأخير التأليف للتأخير في ظل تقارير اقتصادية صادرة عن أصحاب الاختصاص تؤكّد بلا اي خلفيات سياسية انّ الوضع على هذا المستوى يتجه إلى الأسوأ، وانّ الحل الوحيد لتدارك هذا الأسوأ يكمن في تأليف حكومة تأخذ على عاتقها تنفيذ سلة من الأفكار القادرة على إطفاء جزء من الدين العام وإدخال السيولة إلى البلد.

وهذا الهم تحديداً هو الذي يشّكل الشغل الشاغل لرئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع الذي يعقد اجتماعات بعيدة من الأضواء مع خبراء وأصحاب اختصاص للبحث عن السبل الآيلة إلى تجنيب لبنان الأسوأ، ومن هذا المنطلق يحاول الدفع في اتجاه عقد اجتماعات استثنائية لحكومة تصريف الأعمال، لأنّ لبنان في حالة طوارئ غير معلنة، وهذه الحالة تستدعي مواكبة من جانب الحكومة ومجلس النواب بغية إعادة الأمور إلى نصابها، خصوصاً انّ انعكاسات هذا الوضع لا توفر أحداً، ولا مؤشرات في الأفق تدل الى انّ تأليف الحكومة بات وشيكاً في ظل رفض الوزير جبران باسيل ان يتزحزح عن سعيه لتحجيم الحزب التقدمي الإشتراكي وإخراج «القوات» من التشكيلة الحكومية أو تحجيمها. 

فرئيس «القوات» لم يبادر إلى طرح ضرورة التوافق على «اجتماعات الضرورة» للحكومة إلّا بعدما لمس، على غرار غيره من القوى السياسية، أنّ التأليف متعذّر، وهذا تحديداً ما ذهب إليه السيّد نصرالله بقوله «بحسب معطياتي، هناك غباشة، فلا شيء سيظهر، لا في القريب ولا في البعيد في شأن تشكيل الحكومة».

وكل المؤشرات تفيد انّ الفراغ سيطول ويطول سوى في 3 حالات يمكن ان تشكل مخرجاً من دوامة الفراغ المتمادية:

ـ الحالة الأولى هي من طبيعة أمنية مزدوجة: حدوث اغتيال سياسي يدفع الجميع إلى تسريع التأليف كصدمة إيجابية خشية من تداعيات عودة الاغتيالات، ولكن لا مؤشرات إلى عودة الاغتيالات لـ3 أسباب أساسية: كون لبنان تحت المجهر، ولأنّ الوضع الإقليمي متفجِّر، وكون كلفة الاغتيال أكبر بكثير من مستحقات التشكيل، لأنّ حسابات الاغتيال قد لا تنطبق على بيدر التشكيل، بل تؤدي إلى مزيد من التعقيد والفوضى وتدفع إلى توغّل الخارج في الشأن اللبناني وسقوط حالة التبريد التي ينعم بها لبنان منذ سنوات.

ولا مؤشرات أيضاً إلى انّ «حزب الله» في وارد تكرار 7 أيار أو القمصان السود، فالزمن مختلف بالنسبة إلى الحزب نفسه الذي ما زال يتمسّك، وحتى إشعار آخر، بـ»الستاتيكو» القائم، وموقفه أن «لا حكومة في الأفق» هو رسالة مفادها انه على استعداد للتأقلم مع الفراغ ودعوة الى عدم الاتّكاء عليه لقلب الطاولة. فللاغتيال هدف سياسي، وتأليف الحكومة لا يشكل هدفاً يستدعي الاغتيال، ما يعني استبعاد هذا العامل في ظل حرص الجميع على الاستقرار الأمني والسياسي.

ـ الحالة الثانية هي من طبيعة خارجية وتتصل بحصول تطور إقليمي كبير يؤدي إلى قلب الطاولة، ولكن لا تطور مرتقباً على هذا المستوى: فلا الوضع في سوريا يتجه إلى الحسم، ولا حرب إقليمية ستنشب بين إسرائيل وإيران ولا حتى بين إسرائيل و»حزب الله»، فضلاً عن انّ تشديد العقوبات على طهران يبدأ في 4 تشرين الثاني ولا ينتهي في هذا التاريخ، بمعنى انّ مسار الأمور على هذا المستوى سيكون طويلاً. وبالتالي، يبدو انّ الـ»ستاتيكو» الإقليمي سيبقى على ما هو عليه، فيما اي من الأطراف الخارجية لا مصلحة لديه بتفجير الواقع اللبناني، ولذلك لن يشكل العامل الخارجي معطى تغيير حكومي.

ـ الحالة الثالثة هي من طبيعة محلية وتتعلق بتراجع أحد الأطراف الأربعة عن موقفه: 

ـ أولاً، تراجع الرئيس المكلف سعد الحريري عن دعمه موقف «القوات» و«الإشتراكي» وتشكيل حكومة تنسجم مع رؤية الوزير باسيل. ولكن من الثابت انّ الحريري ليس في هذا الوارد لمجموعة اعتبارات: حرصه على نتائج الانتخابات، تمسّكه بتشكيل حكومة متوازنة وطنياً، وتفهّمه موقف «القوات» و«الإشتراكي»، وبالتالي لن يُقدم على تشكيل حكومة أمر واقع ولا حكومة أكثرية. 

ـ ثانياً، تراجع «القوات» عن تمسّكها بالمشاركة في الحكومة أو تمسكها بوزنها التمثيلي، ومن الثابت أيضاً انها ليست في هذا الوارد، علماً انها الطرف الوحيد ربما الذي قدّم التسهيلات لتسريع التأليف، ولكنها لن تقبل بأي شكل من الأشكال ان يأتي تمثيلها الوزاري على حساب تأييد الناس وثقتها، وبالتالي لا تراجع عن موقفها ولن تمنح أحداً جائزة خروجها من الحكومة.

ـ ثالثاً، تراجع «الإشتراكي» ليس وارداً على رغم الإشارات الإيجابية التي أطلقها، ولكنها تبقى ضمن حدود معينة يمكن إدراجها ضمن إطار التساهل بقبول شخصية وسطية تكون أقرب إليه من غيره، ولا تشكِّل حالة يؤسس عليها.

ـ رابعاً، تراجع باسيل عن سعيه التحجيمي لـ»الإشتراكي» والاستبعادي لـ»القوات» عن الحكومة لم يتبدّل، ولا يبدو ان الرئيس ميشال عون في وارد الضغط عليه، بدليل موقفه الأخير في طريق عودته إلى بيروت والمكرر أنه لن يضغط على باسيل.
وفي حال لم يتراجع اي من الأطراف الأربعة من أجل إعادة خلط الأوراق، لا يمكن الكلام عن ولادة الحكومة العتيدة، ولا مؤشرات حقيقية إلى تراجع اي من هذه الأطراف، وبالتالي لا حكومة في الأفق.